إيتماتوف في الوزيرية (2)

تاريخ النشر       14/05/2016 06:00 AM


"بيت  الأقراص": تأملات في الزمن الجميل

طه محمد حسن عجام*

البيت الذي انتمينا له في سنوات السبعينات الأولى من القرن الماضي، وسكنت في داخله أجمل واصدق وأنبل المشاعر والأحاسيس، والتي كانت تجيش في صدور شباب يمتلئ بأحلام كبيرة وتطلعات بلا حدود لصناعة الجمال وترسيخه في حياتنا قيما ومثلا وسلوكا.

بيتنا يشبه في بنائه وواجهته وغرفه، كل بيوت الوزيرية ولا يشبه أيا منها في إنتاجه لحياة نظيفة، تولد من رحمها في ألفة إنسانية حميمة، صداقات نبيلة مميزة صمدت بوجه الطوفان الأسود في سنوات الديكتاتور وحروبه وقمعه وحصاره الوحشي، ليبقى جمر نقائها وعمقها متقدا في الروح، رغم تلال الرماد التي غطتها ما يقرب من خمس وثلاثين عاما.

ما إن تفتح باب المدخل الخشبية للبيت حتى تضع قدماك في الغرفة الأولى على يمين المدخل التي يشغلها عشاق اللغة الانجليزية بامتياز، عباس ديكان، القلب الكبير وشحنة الرومانسية المتوهجة في داخله، والعاشق الولهان للجميلات، إذ يوزع قلبه بينهن كلمات وأبيات شعر ينثرها في طريق الطالبات وهن في طريقهن إلى القسم الداخلي القريب من بيتنا. حسن لطيف، المتأبط دوما كتابا في اللغة الانجليزية وديوان شعر، والمنظم في شؤونه اليومية والمتمسك بأناقته المتميزة. نجاح عبيد، ذو العيون الخضر وطيب القلب، منكبا على دراسته ومجتهدا في أداء واجباته، طموحا للتفوق، لم يتوقف طويلا عند شغفنا في السياسة والثقافة ومتاعبهما.

في الغرفة الملاصقة يسكن حمودي شربة، احد أقطاب البيت الذي ظل يمنح أيامنا حيوية وألقا غمرت أمسياتنا بالمحبة والفرح حين كانت تزدحم بنا غرفته الصغيرة التي يقاسمه فيها العزيزان جعفر الحسيني و باسم عبد أسود. وحمودي شربة وهو الأكبر سنا بيننا كان يدرس في "معهد الدراسات النغمية / الدراسات المسائية"، مما منحه نهارات حرة في حركته كنا نغبطه عليها، وستوفر لنا تلك النهارات لذة الاستمتاع بطبخات أبدع فيها حمودي العزيز حين قررنا أن نطبخ في البيت، فكانت مرقة (البامياء) و (الفاصوليا الخضراء) و (تبسي الباذنجان) التي تخرج من يديه كفيلة بان تدفع بالجميع لمغادرة كلياتهم قبل انتهاء الحصص المقررة للفوز بها حارة شهية.

لئن كان الزمن الذي احتضن أولى خطواتنا في طريق الوعي  السياسي والفكري، ينبض بالانتماء لقوى اليسار فكرا وثقافة وسلوكا، فكان اليسار طابعا لذلك البيت في كافة المستويات عملا منظما في الحزب الشيوعي، وفي إتحاد الطلبة العام، أو يسارا في الثقافة دونما انتماء أو أصدقاء متعاطفين، ولكننا كنا نتنفس في أجواء ذلك البيت الحبيب الفكر والثقافة التقدمية، قراءات وعملا تنظيمية ومشاركات في فعاليات ثقافية وفنية، بل إن كل الزائرين لذلك البيت من أصدقاء كانوا ضمن ذلك التوجه والانتماء.

طه عجام في حديقة بيت خاله: قاسم عبد الأمير عجام 1975

في إحدى الأمسيات كان الراحل الحبيب قاسم عبد الأمير عجام، يزورنا في البيت لنبدأ معا تجوالنا الذي يبدأ من ساحة الميدان مرورا بشارع الرشيد والباب الشرقي وشارع السعدون الذي تكون محطاتنا الأساسية فيه "مقهى البرلمان"، ومكتبات شارع الرشيد والباب الشرقي وشارع السعدون ثم التوقف عند أحد مطاعمه. كانت تلك الرحلة برفقة الخال والصديق  تمنحني دفقات كبيرة من المتعة والفكرة والتجلي. في تلك ألامسية ومثلما هي في كل المرات التي يكون فيها متواجدا معنا، يحرص الجميع على فتح حوارات ومحاور لحديث طويل معه في شؤون الثقافة والأدب والسياسة والتلفزيون الذي كان في حينها "أبو ربيع" فارس النقد التلفزيوني بامتياز، وكان ضمن الحاضرين في تلك الأمسية الصديق العزيز ضياء صلوحي الذي كان يحرص على زيارة بيتنا عند قدومه من الحلة.

وحين يكون الحديث محتدما في الشأن السياسي و"الجبهة الوطنية"، ويدخل أحد الأصدقاء ممن اعتدنا حضورهم لزيارة صديق ممن يسكن معنا، يتوقف "أبو ربيع"عن الحديث ويهمس في اذن الصديق"ضياء صلوحي" عمّن يكون هذا الزائر وهل يتوجب التوقف عن الحديث ام لا. يجيب"ضياء صلوحي"بصوت عال يمزق الصمت الذي أحدثه الزائر لحظة دخوله "أبو ربيع عيني استمر.. اطمئن فانه قرص". ويسأل "أبو ربيع" بأسلوبه الجميل ومرحه الذي يشيع الحياة، "يعني هل كل من هو موجود في هذا البيت هو قرص"؟ فيرد صلوحي مبتهجا بنشوة الفرح:"نعم .. انه بيت الأقراص".

ومن يومها ذهب"بيت الأقراص" اسما ورمزا وعنوانا لبيت ظل يضيء في ذاكرة ساكنيه ذكرى لسنوات تفردت في جمالها وعذوبتها ودفئها، سنوات الحياة الممتلئة حبا وعطاء واجتهادا ومثابرة للقبض على الحلم الأجمل.

و"القرص"هنا كناية للإنسان الشيوعي في ذروة تمسكه بانتمائه فهو"بيت الشيوعية" بامتياز ومحطة لكل الشيوعيين وأصدقائهم. والمفارقة هنا إن "بيت الأقراص"هذا يقع خلف بناية "المكتب التنفيذي للاتحاد الوطني لطلبة العراق"(التنظيم الطلابي للبعث)!

كانت سنوات دراستنا الجامعية التي امتدت من العام 1973لغاية العام 1977، قد شهدت تصاعدا للمد الثقافي والفكري والفني متمثلا بإصدارات الكتب والمجلات وعروض سينمائية ومسرحية رصينة وجادة تحمل بصمات مبدعيها. وكنا نحن أهل "بيت الأقراص"في قلب ذلك الإعصار الثقافي والفني متلقين وفاعلين بحدود متفاوتة، فما أجمل الصباحات التي  كانت تبدأ بحثا عن جديد مكتبات شارع الرشيد والباب الشرقي وشارع السعدون، فكانت (المكتبة السوفياتية) و(المكتبة الفلسطينية) في شارع الرشيد ومكتبات (النهضة) و (التحرير) في الباب الشرقي محطاتنا الأجمل في تلك الرحلات الدائمة. ولأن البعض منا كان يرزح تحت عبء العوز المادي الذي يعجز معه عن شراء الإصدارات الأدبية التي نحلم باقتنائها، كان أحدنا يعمد إلى استعارتها من صديق في كليته، ليمض الكتاب متنقلا بيننا مما يضطرنا إلى أن نسهر معه حتى الصباح لإعادته لضمان استمرار التزود بإصدارات أخرى.

أذكر إني أمضيت الليل بكامله في قراءة "اللاز"، للروائي الجزائري الطاهر وطار، وتكرر ذلك مع" مذكرات نيرودا" و "أولاد حارتنا". وكثيرة هي المرات التي كان فيها البعض منا يلجأ إلى إلغاء وجبات الغداء أو العشاء لشراء كتاب أو مجلة ليستقيم معه مصروفه بدنانيره العشرة أو الخمسة عشر في أحسن الأحوال. ربما كان البعض من أهل البيت استثناء  من ذلك البؤس المادي الذي ألقى بظلاله علينا طيلة سنوات دراستنا.

 كان أهل "بيت الأقراص"، طلابا في كليات وأقسام مختلفة في جامعتي بغداد والمستنصرية، فكان لهم حضورا في أقسام اللغة الإنجليزية والروسية والفرنسية والألمانية في كلية آداب بغداد، وفي كلية العلوم في أقسام الرياضيات والكيمياء والجيولوجيا، وفي الإدارة والاقتصاد ومعهد إعداد المعلمين وكلية التربية الرياضية ومعهد الدراسات النغمية. ويغرد خارج هذا السرب الصديق العزيزخالد حربة  إذ يخرج ببدلته العسكرية الزرقاء في فجر كل يوم ليلتحق بوحدته (نائب ضابط في القوة الجوية)!! ولكنه فاعل في كل أمسياتنا ونزهاتنا اليومية في الوزيرية وباب المعظم والباب الشرقي وأبو نؤاس. يتقاسم خالد حربة الغرفة مع الصديق العزيز هيثم محمد رشيد الجنابي الجميل بطيبته ونبله وصوته الرخيم يملأ البيت مرتديا ملابسه الرياضية وحقيبته المعلقة على كتفيه عائدا من تمرينه في كلية التربية الرياضية.

 وفي الطابق الثاني من بيتنا في الوزيرية يلتئم شمل عائلتنا المميزة مع عبد الاله محمد أمين، ذلك القادم من ناحية القاسم المجلل بالطيبة والنقاء والحب. وكنا أطلقنا عليه لقب "جدو" إشارة لما تضيفه عليه نظارته الطبية من ملامح تقدم في العمر. كان حاضر البديهة تسبقه روحه في حضوره المحبب بيننا بتعليقاته اللاذعة، لم نره مرة بدون محفظته الجلدية السوداء التي كانت تمتلئ بأوراق ومحاضر حزبية وكراريس ومجلات، كان يشاركني غرفتي لثلاثة سنوات تلمست فيها قلبه النبيل وخلقه الرفيع أخا وصديقا ينثر في بيتنا روحه الطيبة أزاهير محبة رغم هموم عمله الحزبي. وفي الغرفة التي تواجهك وأنت تنتهي من السلم المؤدي للطابق الثاني تدخل مملكة الصديق العزيز جابر التي كان يقاسمه فيها على استحياء الصديق عبد المنعم. هي الغرفة الوحيدة في بيتنا التي لم تشهد صخبنا وسهراتنا، فامتلكت ألفتها معهما، فهي حاضنة الواجبات الدراسية التي يثابر جابرعلى انجازها بشكل لم نألفه في الغرف الأخرى، إذ إن مادة الرياضيات على مايبدو تتطلب مثابرة من نوع خاص. وكم كان جابر نبيلا وكريما وطيبا رغم انه يحمل على ظهره جبل أوجاع الفقر ومراراته، لكنه يكبر على كل آلامه بالمثابرة والدرس ليكون النجاح ثمرة تليق بمكابرته واجتهاده.

ولأننا كنا نتمسك بالحصول على الإصدارات الجديدة، فقد سمحنا لأنفسنا وفق قناعات ذلك الزمن بممارسة "لصوصية ثقافية" مارسها بعضنا في سرقة الكتاب من المكتبات التي كانت تزدحم بروادها، في عمليات اقتحامية نفقد فيها توازننا لحظة إدخال الكتاب في "الليفكس" فتدّب في أقدامنا ارتعاشة الخوف من الإمساك بنا وتداعياتها الفضائحية. واذكر إنني كنت مع العزيز حمودي شربة في ظهيرة شتائية في مكتبة التحرير برفقة الصديق عباس ديكان، ويبدو إن معطف حمودي الذي كان يرتديه يمنحه مهابة خاصة، ذلك المعطف الأسود بجيوبه الكبيرة قد أغرانا في الضغط عليه ليدس لنا في جيوبه كتابين هما "بونتيلا وتابعه ماتي" لبريخت، و "رامبو- مختارات شعرية"،  ليصب علينا غضبه وشتائمه وهو يسلمنا الكتابين بعد خروجنا من المكتبة. ولم نعد لممارسة لصوصية الكتاب بعد أن أصبحت ظاهرة سرقة الكتب شائعة، مما استدعى أصحاب المكتبات وضع مرايا كبيرة وزرع عيون العاملين فيها للمراقبة، وعدم السماح بدخول المكتبة إلا بعد أن تضع ماتحمله من كتب أو حقيبة في مدخل المكتبة.

 وفي بيت الطلبة لم نتأخر عن إقامة احتفالات كنا نهيأ لها ويحتشد البيت بالضيوف من أصدقاء في كليات متعددة. إذا كانت مناسبات تأسيس الحزب الشيوعي العراقي واتحاد الطلبة العام وثورة أكتوبر تتوهج فيها احتفالاتنا حتى الفجر، وتصدح حناجر البعض بأغنيات وطنية وتراثية عراقية، موشحات ومقامات يتألق فيها حمودي شربة بطاقاته الصوتية القوية وقدراته التي كانت تسحرنا. ويتصاعد غناؤنا "شيلي تمر بالليل نجمة بسمانا" وكان فيكتور جارا وجعفر حسن نجمان ساطعان في سماء الأغنية السياسية يومها (يالغواية الشباب حينها وهي تقربنا من حلمنا في التغيير)!

 كنا نمتلئ بالرومانسية الثورية حينها سلوكا وحوارات ومواقف، ولان البعض من أهل البيت ناشطون في التنظيم الحزبي والطلابي، فلقد أصبحت غرف البيت مكانا دائما للاجتماعات التي كنا نفض سريتها حين نتعرف على وجوه الرفاق وهم يدخلون البيت على استحياء ليلتئم شملهم في غرفة احد زملائنا من سكنة البيت .

 كنا نضيء ليالينا باللقاءات الحميمة مع أصدقاء من خارج البيت في مشاهدات ممتعة ورائعة لأفلام سينمائية جادة ورصينة لمخرجين عالميين وعرب، فكانت أفلام "زد" و "العدالة المفقودة" و "العصفور" و "زائر الفجر" و "ساكو و فانزيتي" وأفلام كثيرة كانت تحمل سمة ذلك الزمن وتحولاته وتطلعاته، إضافة لحضورنا المتكرر لعروض "فرقة المسرح الفني الحديث"، فلم تزل مسرحية قاسم محمد "بغداد الأزل بين الجد والهزل" محفورة في ذاكرتي لتميزها، ومسرحية "الحلم" والمسرحيات المتميزة التي كانت تعرض على خشبة مسرح أكاديمية الفنون الجميلة التي حملت رصانتها وعمقها في المضمون والأداء "تألق جواكان موريتا و مصرعه" التي كتبها بابلونيرودا و"قارب في غابة" للمؤلف نيكولاي خايتوف أنموذجا.

وكانت أسابيع الأفلام السوفياتية والفرنسية تفتح لنا آفاقا لنحلق في عوالم جميلة وأخاذة.

كان كل شيء في تلك السنوات الجميلة ممكنا، ولم تكن التابوات قد نصبت في حياتنا بعد. فان تقضي الليل متنقلا بين دور السينما والنوادي الليلية والمطاعم والسير في الشوارع  حتى بزوغ الفجر، كان ذلك مألوفا وطبيعيا.

الغرفة الكبيرة التي تواجهك في نهاية ممر الطابق الثاني،  كانت ملاذا آمنا للأعزاء ظافر عبد الله و ناجح علي شهاب و عماد جبار، الذي سيترك المكان بعد انتهاء دراسته في معهد المعلمين ليحل مكانه الصديق العزيز فاضل الربيعي. تلك الغرفة التي لم تنعم ولو لليلة واحدة بالهدوء والصمت، فما إن يجتمع ساكنوها حتى تضج بحياة صاخبة وتتصاعد منها الحوارات بصوت عال في شؤون الجامعة والبيت والسياسة والشعر والرسم، ولكل منهم حكايات ظلت محفورة في ذاكرة أهل "بيت الأقراص".

 عماد جبار، المتوهج بموهبة الإبداع في مجال الرسم، حمل إخفاقه في عدم قبوله طالبا في أكاديمية الفنون الجميلة على الرغم من تفوقه في اختبارات الرسم والنحت لعدم انتمائه للبعث والاتحاد الوطني، ليجد نفسه في معهد إعداد المعلمين  ولكنه ظل أمينا لموهبته وإبداعه فنانا متميزا ومتابعا جادا لمعارض تشكيلية في بغداد .

 ناجح، الفتى الريفي الرائع القادم من قرية (الجمجمة) في الحلة المتوقد ذكاءا وتطلعا لأحلام لم تغادره لحظة ليمسك بها بعد سنتين من وجوده في "بيت الأقراص" ليغادرنا في زمالة دراسية من الحزب الشيوعي العراقي للدراسة في جمهورية ألمانيا الديمقراطية، وسيكون احتفاؤنا بتوديعه ليلة سفره متميزا والذي امتد إلى خيوط الفجر عند انطلاقنا جميعا برفقته في رحلة إلى المطار لتوديعه. وكان مرتديا (سترة سبورت) جميلة اشتراها مع مجموعة كبيرة من معاطف وقماصل وبنطلونات من (سوق البالات) في الباب الشرقي ليفاجئنا بعد إن طلب الاستئذان من ضابط الجوازات ونحن نرقبه من خلال الحواجز الزجاجية بان احد الألمان ممن كانوا معه في صالة الجوازات كان يحدق فيه والسبب كما كان يظن "ناجح" انه كان ينظر إلى السترة التي يرتديها لكونه "عرفها"  (قالها بلهجة ريفية جميلة)أي إنها قد تكون للألماني لكونها من "البالات".

كانت الفوضى في تلك الغرفة العلامة الفارقة لها، فلم يكن احد من شاغليها من يعنيه أمر الاهتمام بترتيب أشياءها التي تجدها مبعثرة طيلة الوقت، وبعد أن ينفض تجمعنا الدائم في تلك الغرفة في ليالي الشتاء الجميلة، يطلب أحدهم من ناجح إطفاء المصباح، فيستجيب للطلب بطريقته المميزة والصادمة حين يقذف بـ(النعال) أسفل سريره إلى المصباح ليتناثر زجاجه فوق بطانيات الأسرة  التي يتدثربها زملائه في الغرفة ليشتري مصباحا جديدا في اليوم التالي فهو يلجأ لذلك لكي لا ينهض من فراشه ليطفئ المصباح!!

 ظافر عبد الله، صديقنا المتوقد بالحياة إحساسا وممارسة كان يضيء ليالينا الطويلة بحضوره الفاعل بروحه الصافية ومشاكساته المستمرة مع الجميع بتعليقاته الساخرة، وكان يحرص على أناقته مثلما كان حريصا على دراسته ومتابعاته في الشأن الثقافي والفني، وكانت له علاقات واسعة مع الأصدقاء من  الطلبة  ممن يتوزعون في بيوت الوزيرية. انه الوسيم شكلا ومضمونا.

فاضل الربيعي، الفتى الأسمر القادم للتو من يوغسلافيا التي ذهب إليها لدراسة الطب والتي أكمل فيها سنة واحدة لكنه عاد لدراسة الرياضيات في الجامعة المستنصرية، حمل معه إلينا باقات الجمال والحب والروح المتفتحة، فكان وجوده ملح البيت الحقيقي وسر الق بيتنا بين بيوت الطلبة، حميميا كان فاضل في علاقاته مع الجميع  وطيب القلب وصانعا حقيقيا للفرح والحياة. رقصته في غرفته حين يتألق بنشوة الحياة محفورة في ذاكرتي، وكنت قريبا منه في البيت والجامعة، فأتلمس فيه إنسانا قريبا من القلب والروح مليئا بالشهامة والكرم وخفة الدم.

 تحية لـ"بيت الأقراص" واحتنا الجميلة في الزمن الجميل وفي بغداد الأجمل، تحية لأهله الرائعين صناع الحياة والجمال والفرح، وسلاما لليال لم تزل متوهجه في الروح احتضنها ذلك البيت الحبيب ...كنا نخلق مناسبات للفرح في سائر الأيام، وإذ كان حمودي شربة يحضّر لامتحانات المعهد،  كنا نزدحم في غرفته لنستمتع بمراجعاته التي لم تكن إلا عزفا جميلا على العود والكمان يصاحبها صوته الشجي غناءا لنشترك معه في أداء الأغاني القديمة "جان القلب ساليك" و "نبعة الريحان"  وغيرهما فضلا عن مقامات يوسف عمر..

سلاما للباقين منهم على قيد الأمل وحزنا على الراحلين الحاضرين في القلب والوجدان.

 هؤلاء اضاءوا ليالينا في "بيت الاقراص":

*كوكب حمزة: الملحن الذي أضاء سماء الأغنية العراقية في السبعينات بأجمل الألحان، كان يأتي إلى"بيت الأقراص" برفقة (عوده) مع الصديق العزيز عبد الإله محمد أمين، ابن مدينته (القاسم) ورفيقه، وكانت ليال متميزة معه غناءا و حوارا.

* كريم العراقي: الشاعر الذي كان في خطواته الأولى في طريق الشعر، حضر في أكثر من مناسبة برفقة الصديق عماد جبار، زميله في معهد إعداد المعلمين، وكانت معه قراءات لقصائده التي ظهرت على صفحات "طريق الشعب".

* قاسم عبد الأمير عجام: كان الشهيد (أبو ربيع) خلال فترة دراسته للماجستير في          بكتريا التربة يجد في "بيت الأقراص" احد محطاته الأساسية  ليلتقي بابن أخته "كاتب السطور"، وكان حضوره مميزا وثريا في شؤون الثقافة والسياسة  والفنون، اذ كان احد أعمدة النقد التلفزيوني والسينمائي والثقافي وكانت مقالاته النقدية تملأ الصفحات الثقافية في "طريق الشعب" و"الفكر الجديد" ومجلات "الأقلام" و "آفاق عربية" وإسهامات عميقة في الندوات والمؤتمرات الأدبية والثقافية والعلمية.

* د. رشيد الخيون : الكاتب والباحث العراقي الذي لم يزل يرفد ميادين البحث برؤيته العلمية بنتاجات متميزة كان حضوره إلى" بيت الأقراص" عن طريق صديق اسمه ادم،  يعمل في مخبز للصمون مقابل البيت .ولقد أشار الخيون لذلك البيت في مقال كتبه عن الراحل قاسم عبد الأمير عجام بعد اغتياله،  وقد صدمت بمعلومة ذكرها في مقاله عن زرع احد الطلبة السودانيين (أبو عبيدة) من قبل مخابرات البعث ليكون عينا على أهل "بيت الأقراص" بعد أن اظهر لنا بأنه "قرص" سوداني !!

* علي عبد الأمير عجام: الإعلامي والشاعر والناقد والطالب في كلية الطب البيطري حينها، وجد في عائلة "بيت الأقراص" ما يشده إليهم من خلال توافقات فكرية وثقافية  وكان مهموما بالشعر والموسيقى، ظلت وشائج المحبة والصداقة  مستمرة مع الكثيرين من أهل "بيت الأقراص" على الرغم من وجوده في المنافي لسنوات طويلة.  

 

الباقون على قيد الأمل والحياة  :             

·       عباس ديكان : حصل على شهادة الدكتوراه في اللغة الانكليزية.

·       حسن لطيف : مدرس اللغة الانكليزية.

·       نجاح عبيد : مدرس اللغة الانكليزية.

·       حمودي شربة : مقيم في السويد , يعمل ضمن فرقة موسيقية سويدية- عراقية .

·       جعفر الحسيني : مدير الرقابة التجارية في بابل .

·       باسم عبد اسود : متقاعد ويمارس أعمال حرة .

·       هيثم محمد رشيد الجنابي : عاد من المنفى، يعمل في مجال الصحافة والرياضة، مستشارا في شؤونها .

·       خالد حربة : أعمال حرة .

·       جابر : مدرس الرياضيات .

·       طه محمد حسن عجام : مدير إدارة |المركز الوطني للمختبرات الإنشائية- بابل .

·       ظافر عبد الله : مدير عام في وزارة الموارد المائية .

·       ناجح علي شهاب : حصل على شهادة الدكتوراه في الاقتصاد- مقيم في ألمانيا .

·       عماد جبار : يعمل في معهد الإعداد والتدريب- تربية بابل .  

 

الحاضرون في الغياب : 

·       عبد الإله محمد أمين : توفي اثر نوبة قلبية .

·       فاضل الربيعي : توفي في 30-7-2008 أثر مرض عضال في العمود الفقري .


*الجزء الثاني من فصل "إيتماتوف في الوزيرية" من كتابي "حنين بغدادي". آثرت ان أدعو رفيق حياتي في الطفولة والصبا والشباب، ابن أختي وصديقي طه محمد حسن عجام الى كتابته، فهو في مركز الحدث الذي يمثله بيت الطلبة الحليين في الوزيرية خلال سنوات طويلة من عقد السبعينيات.


مقالات متعلقة
  • إيتماتوف في الوزيرية



  •  

     

     

    Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

    Powered and Designed by ENANA.COM