مقالات  



حميد الربيعي: الحلو في مرارات العراق

تاريخ النشر       27/06/2016 06:00 AM


علي عبد الأمير

1

شهد البصرة لا علقمها

لا يمكن نسيان سفرتنا الخيالية في شباط 1975 من بغداد الى البصرة عبر القطار، حين استأجرت كليتنا عربة قطار كاملة كي يقضي من يختار من الطلبة قضاء العطلة الربيعية في البصرة. في تلك السفرة العجائبية اقتربت أكثر من حميد الربيعي، الذي كان يسبقني بدورتين، وزادت من نسبة الحلاوة فيه، "بصراوية" رائعة هي زميلته وحبيبته وصديقتنا سهام، التي لم أنس فرحها حين زرت بيتهما الصغير في بغداد، وهو بالكاد يسع آمالهما، هي وحميد، في العام 1979، قبل ان تتحول تلك الآمال سريعا الى كوابيس، بسبب مرارات العراق التي اندلقت سريعا من خوابي القسوة والرعب والآثام، لتتقطع بنا السبل، فأنا الى قعر الجحيم الوطني، والربيعي الى حافاته.

 

 

جزيرة السندباد بالبصرة شتاء 1975: الربيعي على اليسار وأنا على اليمين

 

 

 2

الفقراء لا الوعي الفقير

صاحب الفكرة القائمة على التضامن الكلي مع الضحايا والفقراء، تعلمت منه وعيا حادا ومبكرا، ان إلتزام الفقراء لا يعني بالضرورة، التزام الوعي الفقير، فهو بالرغم من كونه ابن مدينة الثورة، الا انه لم يكن الا الناقد للقيم الاجتماعية السائدة فيها، حد انه لم يتردد من مواجهة هذه القيم حتى وإن كانت تنطلق من أقرب الناس اليه: أخوته وأخواته. من هنا كانت غرفته الشخصية معزولة عن الامتداد الطبيعي لمنزل العائلة، كأنه في ذلك كان يختار عزلته بوعي وإدراك، وبتجسيد لفكرة الإختلاف عن القيم الإجتماعية السائدة التي كان كثير الإشتباك بقوة معها.

3

منفى المسافة لا منفى الروح

في العام 2007 وبينما العراق واقع بين صخرتي مطحنة الموت والعذاب، جاءني كلام مرتبك في لهفته، لكنه ثابت في صدقه، كلام من عبد الحميد الربيعي، وبعد نحو ربع قرن على غياب قسري، اخذه الى المنفى كمسافة، لكن لم يأخذه بعيدا عن روح البلاد وجوهرها، عبر كلام عاجل في الأشواق والتعب والحسرات والدموع، جسدته رسائل البريد الإليكترونية، التي بعث بها من سواحل الإنتظار الليبية حيث واصل رحلته القسرية، اليّ في واشنطن التي وصلت اليها بعد شوط رهيب من العمل الجدي ما بين بغداد وعمّان في ورشة الأمل بعراق مختلف، بدا لي شبه مستحيل إن لم يكن هو المستحيل ذاته. كلام الربيعي، أكد ان صديقي القديم ما يزال هو ذاته، كان المنفى بالنسبة اليه مجرد مسافة قصية، لكن الروح ظلت مقيمة هناك تعمل بدأب قل نظيره، حتى في أشد الأوقات قسوة وغلاظة.

4

عليل الجسد .. صحيح الفكرة

بعد سنوات من تلك المعادلة المختلة، يعود الربيعي الى بغداد التي شهدت أولى قصصه المتخيلة والواقعية على حد سواء، ويختبر فكرة الوطن الحقيقية، مثلما يختبر مبدأه القديم: الفقراء لا الوعي الفقير، ليجد نفسه وهو في عزلة عن البلاد رغم انه جاء الى قلب الفكرة الملتهبة. ووجد حلا من نوع مطاولة الألم، حلا يقوم على سرد الآمال والآلام عبر توثيقها فنيا في الرواية. ومع كل عمل روائي جديد في بغداد، كان يبدو أقرب الى معادلة مختلة جديدة: صحيح الفكرة ولكنه عليل الجسد. حميد الربيعي يطاول في بغداد، وحشا ينهش رئته اليمنى، وبالرغم من كل هذا، فهو من الحلو في مرارات العراق.    



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM