مقالات  



عن أشرعة إبراهيم أحمد المتكسرة في دجلة

تاريخ النشر       10/08/2016 06:00 AM


علي عبد الأمير

يأخذنا الروائي والقاص والكاتب العراقي، إبراهيم أحمد، الى معاينة المسار الإنساني والفكري المعاصر لبلاده، عبر مقال حمل عنوان مستعار " يا شراعاً وراء دجلة يجري". والإستعارة هنا، لم تأت تأثرا خارجيا بعمل المطرب الراحل محمد عبد الوهاب الذي تلقى في العام 1932 دعوة لزيارة بغداد، التي وصلها بعد رحلة مضنية من الشام عبر البر، وليغني في حديقة معرضها أمام الملك فيصل الأول، قصيدة وضعها الشاعر أحمد شوقي ومطلعها "يا شراعاً وراء دجلة يجري/ في دموعي تجنبتك العوادي"، وصولا الى "أمة تنشئ الحياة وتبني/ كبناء الأبوة الأمجاد".

هجرة أم هجير؟

وعلى الرغم من إندراجي شخصيا منذ فترة ليست بالقصيرة، في إسلوب كتابي قائم على استثارة الحنين، كنوع من الدفاع عن هوية وطنية عراقية تواجه خطرا جديا يهددها بالزوال، إلا انني تعلمت من صاحبة رواية "طفل السي أن أن"، درسا في هذا الإسلوب، عبر استعادة الأغنية وجوهرها: شراع، دجلة، فبغداد، بمقابل نقائض تلك المواضع ودلالاتها: رصيف، شريد، فمدينة غريبة صادف انها بيروت، فيكتب "في بغداد وفي مطلع شبابي، كنت كلما استمعت لهذه الأغنية أحس برهبة غامضة، وشجن لا يخلو من دفء وعذوبة. شغلتنا السياسة، وعصفت بنا، ووجدتني في عام 1979 شريداً في بيروت، ومن بائع أشرطة في عربة قريباً من رصيف الجامعة الأمريكية اشتريت شريط هذه الأغنية، وحين وضعته في جيبي، أحسست أن بغداد قد عادت لصيقة قلبي، وشراعها العالي الكبير عاد شراعي حتى لو قادني لبحار الموت، لكني حين حللت في الجزائر لم أعد أستطيع مواصلة الاستماع للأغنية، صار الشجن حرقة في الحنجرة، وبكاءً مخنوقاً في القلب، وغضباً منكفئاً في الجسد".


وعلى امتداد محطات منفاه او هجيره، اذ لا فرق جوهريا بينهما عند من سكنت بلاده وانسانها طواعية في روحه، وطوال ثلاثين عاما: الجزائر، دمشق، براغ، موسكو، بودابست وصولا الى السويد، كان سؤال جوهري يتحول هاجسا وحشيا " كيف ألقي شراع بغداد ورائي؟ كيف أدع المركب يتهادى على دجلة دون أن أحشر نفسي بين ركابه، حتى لو أراد بعضهم يوماً إلقائي في الموج واللجة الفائرة"؟ ثم صارت الأغنية "أنيناً على شفتي المتيبستين"!

هنا يحيلني ابراهيم أحمد الى مشهد شخصي لدجلة قرأته في شعري، وكأنني وقعت مريض العلة ذاتها التي أوقعت الكاتب البارع في نسيجه القصصي الخاص، فكتبت نصا ضمن كتابي الشعري الثاني "خذ الأناشيد ثناء لغيابك" الصادر العام 1996 عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر"، وهو بعنوان "دجلة":

الصيف يحنو على الضفاف

الأيام ذاتها المكتفية بقميصها الخفيف

قلب المدينة  ضيّق

والنهر  يسمع سقوطنا في مجراه

هو ذا النائح الذي كللّته العاصفة، بالعزلة

كان ينوي  إيواء القيظ في بيت الأغنية

الأغنية  التي جففته قرب زورق وحيد

ونشرت قميصه لحنايا العاصفة

مدمنو الأمل؟

ومثلما العراقيون سادة لا يجارون في المفارقات: يقتلون من يبني دولتهم ويرفعون الى علياء، من يقتلهم تارة ومن يسرقهم تارات كثيرة، هم ايضا مدمنو الأمل حتى وإن بدا مستحيلا، فيكتب عن ما صار بيانا لكثير من "مخدوعي الأمل" وتحديدا ممن كانوا يرون في نهاية طغيان صدام، إيذانا بموعد حياة جديد: "قلت هذا حال مؤقت، بغداد ستبني نفسها، تحيل الخرائب والأنقاض والنخيل المحروق جنائن وبيوتاً سعيدة، والشراع سينهض من الدموع ويراقص الأفق الذهبي"!

وليس غريبا ان يكون مدمنو الأمل، مخدوعين على نحو سافر، ويظلون يركضون وراء الشراع المستحيل، وهكذا فان ابراهيم أحمد ظل يراهن على الأمل وإن كان خادعا: "سنوات وأنا أجد العذر لليد التي لا تبني، باليد التي تهدم وتخرب وتقتل الناس وترهبهم".

لقد تبدد الأمل، فبغداد تضرب "بأيدي رجال من أهلها! أناس ليتهم يكتفون أنهم لا يبنون، رغم كل ما يأخذون، ولكنهم يصرون على الهدم والخراب، واقتلاع ما بني وصار وجدان الناس وذاكرتهم"؟

ومن ذاكرة صاحب رواية "ليلة الهدهد"، وقلة من مدمني الأمل، ثمة شراع مفتوح للنسيم ولأفق طافح يرسمه دجلة، توجزه أغنية "يا شراعاً" التي لا يعرفها كثيرون ولا يعرضها باعة الأشرطة "هم طبعاً لا يعرفونها: إنهم طيبون، يريدون مساعدتنا على النسيان، ولئم جراحنا، ما ذنبهم؟ إذا ظل بيننا حتى اليوم من يصر على أن هناك: شراعاً وراء دجلة يجري"!

هكذا يطوي ابراهيم أحمد، صفحة أخرى متيبسة في كتاب مدمني الأمل المخدوعين. هكذا تتكسر أشرعة الكاتب على ضفاف دجلة!




 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM