مدرستي الأولى وسحر معلم النشيد والموسيقى

تاريخ النشر       03/10/2016 06:00 AM


علي عبد الأمير*

في خريف العام 1961، كانت يد أخي الدافئة ترفع كفي برقّة وهي تقودني إلى “مدرسة التهذيب الابتدائية” الواقعة في مدخل المسيب الشمالي وعلى الطريق المؤدية إلى بغداد.
خطواتي المتعثرة في باب المدرسة، وحديث أخي مع أحد المعلمين مشيرا نحوي، هما الملمحان المبكران لأيام ستقودني إلى الصف الأول القابع في آخر البناية التي كانت تضج بأصوات التلاميذ في الصفوف الأخرى وهم يرددون كلاما موقّعا هو نصوص القراءة. أصواتهم ما انفك رنينها في ذهني مثلما ظل صوت المعلم وهو يتلو علينا الدرس الأول، ومثلما هي لاحقا أصوات قرقعة الأكواب ونحن نخرجها من حقائبنا لنضعها أمامنا على الرحلات بانتظار ” فرّاش المدرسة” الذي يحمل قناني “الحليب المعقم” بشكلها الذي سحر خيالي، وليسكب السائل الأبيض أحيانا او المائل للصفرة أحيانا أخرى حين يأتي ” الحليب المطعم بالموز”.

سنة أولى في مدرسة سأحتاج سنوات كي أعرف معنى اسمها: “التهذيب”، ثم خمس سنوات لاحقا في “مدرسة المثنى الابتدائية” ببنائها الهندسي الجميل، وصفوف الطابق الأرضي منها والمطلة على حديقة، كنت أراها جنة حقيقية لاسيما أنني مبكرا كنت أربط بين البيت الجميل واحتوائه على حديقة، والمعروفة أيضا بساحة الرياضة وملعب كرة السلة الذي سيشهد أكثر مباريات سخونة بين مدارس قضاء المسيب.

في الصفوف الدراسية من الثالث حتى السادس، أثّر فيّ كثيرا ثلاثة معلمين، الأول معلم الحساب وهو محمد فاضل بابان، وكان قاسيا في غضبه على “الكسالى”، فيضربهم ضربا مبرحا بعصا طويلة رفيعة من الخيزران، من دون أن يوقف غضبه عند أولئك الذي قصّروا في “واجبهم البيتي” أو في الامتحانات الصفية، فكان يشملنا جميعا بعقاب جماعي.


ومعلّمي الثاني كان معلّم القراءة واللغة العربية عبد الرزاق الحمداني، الذي كان يراقب بإعجاب لا خط يدي وكتابتها وحسب، بل في مستوى التعبير الذي كنت أدون فيه صفحات دفتر مادة “التعبير والقصص” التي صارت لاحقا تحمل عنوان “الإنشاء”، وكان يحمّلني مسؤولية عبر قوله، “أنت من بيت الأدب والفكر وعليك أن تكون بارا بأهلك”.

أما الثالث الذي أكنّ له كل العرفان والتقدير والإعجاب، فهو أستاذ النشيد والموسيقى، حاتم عسكري، أو “حاتم عسكوري”، فإذا كانت لي معرفة في الموسيقى والألحان، فهو صاحب بذرتها الأولى، وإذا كانت لي قدرة في تذوق الموسيقى الرفيعة، فيعود الفضل إليه. كان يسحرني حقا، أنيق إلى حد الدهشة، بتسريحة شعر وبدلات غامقة مرتبة بعناية تنتهي سراويلها دائما بأحذية نظيفة حد اللمعان، ناهيك عن ألوان ربطات العنق وطريقة وضعها أعلى ياقات القمصان المنشّاة، ومن دون أن ينسى المنديل الأبيض أو الأزرق الفاتح في الجيب العلوي لسترته.

ليس ذلك وحسب، كان آسرا حين يستل برشاقة آلة العود من حقيبته التي كان يحرص على أن يحملها برشاقة تدل على ما يفعله أي عازف متمرس، ومثلها طريقته في التعامل مع آلة أخرى هي الكمان. معه أحببت النغم الجميل، وبدأت أميز الرقيق من اللحن، وكم كنت أبتهج في الصف الخامس، حد التصفيق حين كان يقول: انتهى الآن درس النشيد، ويبدأ مشوار الألحان فماذا تريدون أن تسمعون؟ فيعزف من كمانه أو عوده، لحنا لعبد الوهاب، أو من أغنيات ناظم الغزالي، فيأخذنا إلى جو أحلق عبره إلى عوالم كنت أسمعها عبر الراديو، أو بالكاد أتعرف على ملامح أصحابها عبر التلفزيون الذي كان جديدا حينها، والبث يجاهد من أجل الوصول إلى أبعد من بغداد، ولندخل عبر جوه النغمي الشاسع إلى مناطق بعيدة فسيحة، هي غير مناطق البيت والمدرسة، وكانت نقيضا بأصواتها المرهفة لتلك الأصوات الحادة الجارحة التي كانت تتركها خيزرانة فاضل بابان الرهيبة.

*الصورة: للصف الرابع الإبتدائي بمدرسة المثنى في مدينة المسيب 1964 وكاتب السطور ضمن المنطقة المؤشرة


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM