ابن أمير مكة ومهمة تربوية في العراق: الفنون الجميلة؟

تاريخ النشر       29/11/2016 06:00 AM


علي عبد الأمير

لا خلاف بين فناني الموسيقى العراقية وباحثيها ونقادها، ومؤرخي صفحاتها، على ان الشريف محيي الدين حيدر، هو الراعي الحقيقي للتربية الموسيقية والفنية الحديثة في العراق.
 والشريف، تسمية جاءته كونه ابن أمير مكة المكرمة، الشريف علي حيدر باشا، الموُلود في إستانبول سنة 1893م وفيها نشأ ودرس وترعرع.  دخل كلية الحقوق وفي السنة الثانية بدأ بالدوام في دار الفنون (قسم الآداب) وقد حصل على الشهادتين العاليتين فيهما، إذ استطاع بقوة وذكاء ان يجمع بين الدراستين في وقت واحد.
 منذ صغره، بدأ يميل وينجذب إلى الموسيقى، فأخذ يحاول عزف ما يسمعه من الأغاني على آلة البيانو، وعندما وصل السابعة من عمره بدأ بتعلم آلة العود بنفسه أولاً، إذ كان يستمع إلى كبار الاساتذة الموسيقيين الذين يحضرون إلى قصر والده في استانبول، ونظراً لكونه منشغلاً في دروسه الأخرى (المدرسية) فان تعلمه للموسيقى لم يأت بصورة منتظمة، ومع هذا وعندما بلغ الثالثة عشرة كان قد تمكن من العزف على آلة العود بدرجة كبيرة جداً فاق ما كان معروفاً عن العود في ذلك الوقت(1).

دليل لا غنى عنه لأي عازف عود؟
في عام 1919 بدأ بكتابة المؤلفات المخصصة للعود، وبتلحين أعمال لم تكن معروفة من قبل، ليتوقف الاساتذة المعروفون عند موهبته ونضجه ويعترفون بهما، ومن تلك الأعمال: "الطفل الراكض"، "تأمل"، "ليت لي جناح"، " سماعي عراق"، وغيرها، ولتصبح لاحقا، بمثابة الدليل الذي لا غنى عنه لأي عازف على العود، يأمل ان تكون له بصمة خاصة على الآلة الاشهر عربيا وشرقيا. 
أثناء الحرب العالمية الأولى، عين والده أميراً لمكة المكرمة فكان برفقة أبيه في سوريا والمدينة المنورة، وفي هذه الفترة لم يتمكن من متابعة الموسيقى ودراستها، فقد أعلن والده ولاءه للدولة العثمانية تاركاً منافعه الشخصية وارتباطاته العائلية التي الحق بها الضرر التام، عقب إنتهاء الحرب العالمية الأولى التي شهدت إنهيار تلك الدولة وقيام تركيا الحديثة على انقاضها.

أي ملامح لـ"مدرسة" الشريف محيي الدين حيدر؟ 
في يوم ما من عام 1936 خاطبته حكومة العراق، ان يقدم إلى بغداد لكي يغرس برعما للفن في ويؤسس معهداً للموسيقى، فوجد هذا النداء صدى طيباً، وحمل آماله وأوتاره وأفكاره، فتأسس معهد الموسيقى في العام ذاته، ولم يقتصر عمله على إدارة هذا المعهد بل تولى بنفسه تدريس آلتي العود و الفيولونسيل (التشيللو).
وعن طريقة الشريف حيدر في تقريب الفنون الموسيقية نغما وعزفا إلى طلابه، يقول أحدهم، وهو العازف الراحل سلمان شكر(2)، "كان الشريف يكتب التمارين بنفسه ولكل طالب على حدة، أي ان التمارين تختلف باختلاف الطلبة، ثم يعزف التمرين مرة أو مرتين أمام الطالب، شارحا له بعض النقاط وعندما يثبت الطالب جدارته في عزف التمرين ينتقل الشريف معه الى تمرين آخر. ثم هناك مجموعة من العناصر التي يمكن بها تشخيص منهج الشريف، فالشريف كان عازفاً ماهرا للموسيقى الغربية متضلعا بأسرارها، استهواه، تكنيك كل من فرانز ليست (1811-1886) ونيكولا باغانيني (1782-  1840) كما انه كان يحب يوهان سيبستيان باخ (1685 - 1750 )، حتى انه حاول تطبيق وعزف مؤلفاته على العود. ثم أدخل السرعة على آلة اشتهرت ببطء العزف عليها، متأثرا بوهج تقنية القرن التاسع عشر في أوروبا".
لقد حمل الفنان الشريف محيي الدين حيدر وهو مكلف بمهمته المنتظرة، أفكار بيئته الموسيقية وثقافته المتمثلة بالشكلين الأبرز في المؤلفات الموسيقية الشرقية: "البشرف" و"السماعي"، مؤطرة بدراسته وثقافته للموسيقى الغربية (والتي أصبحت الأخيرة سمة واضحة في مؤلفاته)، مضافاً إليها موهبته وسعة مداركه الفنية ليبني على ضوء ذلك قاعدة لمدرسة العود(3)، أصبحت هذه المدارك هوية لها، إذ نهل منها طلبتها كل حسب قابليته واستيعابه لهذه العلوم، وتخرج على ضوء ذلك مجموعة من الفنانين البارزين ومنهم (جميل بشير، سلمان شكر، منير بشير وغانم حداد).
 ويقسّم الباحث حبيب ظاهر العباس، في كتابه " الشريف محي الدين حيدر وتلامذته"، هؤلاء الفنانين الذين تتلمذوا على يد الفنان الشريف محيي الدين حيدر، إلى فريقين واصل أحدهما العزف منفرداً بطريقته الخاصة مثل الفنان سلمان شكر الذي حافظ على أسلوبية وطريقة تفكير أستاذه، أما الفريق الثاني والمتمثل في الفنان (جميل بشير ومنير بشير وغانم حداد) فقد اتجهوا إلى دراسة ما لم توفره لهم مدرسة أستاذهم، فتعلموا واتقنوا التقاسيم بعيداً عن الاسلوب التركي بعض الشيء، أي تقربوا أكثر إلى محيطهم الموسيقي المتمثل بالمقامات العراقية والألوان الريفية والبستات العراقية.
وامتازت مدرسة الفنان الشريف محيي الدين حيدر، بسمات فنية منها:
* آلة العود تستطيع القيام بدور تعبيري عميق سواء بشكل منفرد أم داخل الأوركسترا.
* العمل على جعل التقاسيم على آلة العود، فنا نغميا قادرا على تخطي الحدود التطريبية إلى آفاق التعبير الراقي.
* امتازت هذه المدرسة بتخريج عازفين بارعين يمكن ان تلمس بصماتهم بكـل وضوح فيما قدموه من جهد واعمال موسيقية أرست قواعد مدرسة عود لها ملامحهـا الخاصة ذات التكنيك العالي المستوى.
*اعتماد السماعيات والبشارف والقطع الموسيقية التي ألفها الفنان الشريف محيي الدين حيدر ذات التكنيك العالي، بعيدا عن فن التأليف الغنائي بخلاف المدرسة المصرية التي جعلت من آلة العود وسيلة للتطريب المتميز والعالي المستوى.
* اهتمت هذه المدرسة بالآلة عملياً مبتعداً بعض الشيء عن العلوم النظرية الموسيقية رغم ثقافة وسعة مدارك صاحبها الفنية.

في نيويورك قبل بغداد
في العام 1924 سافر إلى أميركا، ليتمكن من أقامة أول حفل خاص به بعد أربع سنوات، عاش خلالها ظروفا خانقة مادية من جهة، ومعنوية من جهة أخرى، لكنه كافح لاجتياز هذه المحنة. الحفل شهد حضور لافت تقدمه، أكثر من عشرين ناقدا موسيقيا، وتضمن أعمالا لآلة التشيللو، كتبها كبار موسيقيي الغرب، كما عزف مؤلفاته الخاصة لآلة العود. وفي الحفل حقق الشريف محي الدين حيدر، نجاحا باهرا، حمله الى سلسلة من الحفلات التي جذبت الأسماع إليه من ولايات أميركية عدّة، كما عزف مؤلفاته للعود ومقطوعات موسيقية شرقية ضمن منهاج خاص عن الشرق الاوسط في أكثر من إذاعة أميركية.
في 1932 انتكست صحته، ليوصيه الاطباء بالراحة التامة والابتعاد عن المسارح وضوضائها، فقفل راجعا إلى استانبول، وفيها بدأ في أواخر 1934 بتقديم أولى حفلاته الموسيقية وحققت فيها نجاحا منقطع النظير.
والشريف محي الدين حيدر، الذي لم تقتصر اهتماماته على الموسيقى وحسب، فقد كان مهتماً بالرسم أيضاً، حتى ان بعضاً من أعماله وجدت طريقها الى المتاحف والمعارض، تلقى في 1936 طلبا من الحكومة العراقية للمجيء إلى بغداد وتأسيس أول معهد موسيقي رسمي، فرحّب بالفكرة ليؤسسه في العام ذاته.


الشريف حيدر في منزله باسطنبول جالسا في أقصى اليسار وخلفه العازف العراقي الشهير سلمان شكر والى يمنيه زوجته المغنية التركية صفية آيلة


في عام 1947 – 1948 مرض الفنان الشريف محيي الدين حيدر، واخذ إجازة من وزارة المعارف آنذاك لثلاثة أشهر وثلاثة مثلها هي العطلة الصيفية، وسافر إلى انقرة حيث أجريت له عملية استئصال اللوزتين، وبعد ان قضى الشهور الستة وفي أثناء عودته إلى العراق أصيب بوعكة مرضية اضطرته للعودة إلى تركيا مرة أخرى، حيث نصحه الاطباء بالبقاء هناك، وارسل استقالته من هناك، وفي 28 نيسان 1950 تزوج من الفنانة التركية الكبيرة صفية أيله، وتوفي في استانبول في 13 / 9 / 1967.


هوامش:
 (1) "الشريف محي الدين حيدر وتلامذته"، حبيب ظاهر العباس، بغداد. 
(2) مجلة "فنون عربية"، لندن، العدد الأول 1982.
(3) الشريف محي الدين حيدر وتلامذته"، حبيب ظاهر العباس، بغداد. 





 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM