نقد أدبي  



سنان انطون إذ يكتب رواية المروءات العراقية المغدورة

تاريخ النشر       18/01/2017 06:00 AM


علي عبد الأمير
لم يبتعد عن الحقيقة من قال ان رواية "فهرس" للكاتب والشاعر والأكاديمي العراقي سنان انطون، هي رواية مصائر الإنسان في بلاده، مثلما كان محقا من وصف الرواية الصادرة العام الماضي عن "دار الجمل" بكونها حفلت بتقنية عالية، ولم يجانب الدقة من كتب ان "اللغة لعبة أنطون الأساسية في معظم أعماله"، مثلما كان الحديث عن حضور المسار الشخصي الواقعي للمؤلف في المتن الحياتي والمهني والفكري للشخصية الرئيسة، أكان ذلك في كونه أكاديميا في جامعة نيويورك أم في موقفه الرافض للحرب الأميركية على بلاده. كل هذا صحيح بل وأكثر ويمتد الى وصف الرواية بانها تضعنا "أمام بطلين (نمير في اميركا / ودود في العراق) مهزومين، كل منهما يحاول أن يلملم شتات روحه".


ان تعدد مستويات القراءة، يكشف تعددا في المنظورات إلى فكرة العراق ومحنته التي نجح صاحب رواية "وحدها شجرة الرمان" في جعلها متاحة لكل من يسعى الى الرؤية والتمعن والتبصر. لكن الأمر أبعد من كل هذه الإلتقاطات التي حفلت بها قراءات وعروض نقدية عدة، أمكن لصاحب السطور الاطلاع عليها، فهو يتشكل عبر مسار أخلاقي عال في التزامه بالحقيقة المغدورة التي لطالما كانت إيقاعا شبه دائم للتحولات العراقية العاصفة، ولكن ليس في سياق مباشر فج، بل عبر استعارات ليس أقلها تقنية السرد (الرواية الأصلية التي تابعت مسار البطل نمير في ضفتي المكان: العراق وأميركا). 
صحيح ان ظلال سنان في حياته الشخصية تتشابك مع ملامح نمير في الرواية، لكن النص مثلما هو المصير الأدبي- الدلالي، ليسا على هذا النحو التبسيطي، مثلما وجود بغداد كمدينة ومصائر كان أبعد من الأشواق والجغرافيا واستحضار البيئات الاجتماعية والفكرية التقليدية. انه لم يكن بقصد الحنين حتى لو كان يعني الوفاء للروح الأولى المعلمة، بل هو في مقاربة الدروب التي جعلت المدينة ثم البلاد على حافة الفناء، الحافة التي عنتها مسارات الحروب والعنف والقمع.

ليست مجرد تقنية ولا تجريبا
لقد كانت مناورة اجرائية ذكية حين عمد صاحب رواية "يا مريم" الى تعزيز وجود بطل روايته الأخيرة، (نمير)، في ضفتي المكان: العراق وأميركا عبر (ودود) بائع الكتب في شارع المتنبي، بوصفه الشاهد والضمير، الذي خبر أهوال  بلاده وخيبات انسانها، فعرف حروبها وحصاراتها، وظل مأخوذا بفكرة الحفاظ حتى على أي نسغ حي، نجح في ذلك أم أخفق، فالمهم انه سعى وابدى عنادا حيال مجنزرات الموت والرعب وهي تتقدم نحو حياته. هنا لم يكن ودود مجرد عين نمير، انه فكرة العراق الشاب المهذب المتطلع المثابر (سعيه الى انقاذ اشجار البيت من نيران الصواريخ والقذائف)، مثلما هو في تمزقاته (انهياراته النفسية والوجودية) صورة عن روح البلاد وهي تتعذب وتتمزق ومن ثم تحترق، وتلك لعمري مروءة كبيرة يحرص انطوان على الانتصار لها دونما تعبيرات مباشرة تخرجها عن التأثير الوجداني العميق.
لا الشكل السردي ولا مهارة استخدام اللغة هما ملمحان وحيدان في رواية "فهرس"، مع ان الثناء عليهما صحيح ولكنه ليس كل القصة ولا جوهرها، بل ان حتى استخدام الدارجة العراقية من قبل أنطون، لم يكن مجرد احالات بيئية ونفسية مباشرة، فاللهجة المحكية صارت جزءا من المضمون وليس من اساليب شكلية في الحوار، انها جاءت تلقائية ومن نبض المشهد وعناصره الانسانية، لكن دون ان تكون توسلا لشعبوية فكرية فجة ولا لضمان مستويات شعبية واسعة في التلقي، فصارت حتى مقاربات الوجدان الشعبي (أغنية بغدادية للمطربة زهور حسين) مقبولة، حين تصبح عند الأستاذ في الجامعات الأميركية (أغنية بلوز  عراقية)، وهو بذلك يفخر بملمح وجداني- ثقافي دال على روحية رفيعة متصلة بهويته، ويقدمه ضمن وصف حسن ( البلوز شكل موسيقي- غنائي أجاد فيه السود التعبير الراقي عن محطات وجودهم في القارة الجديدة) الى صديقته الأميركية، وهذه لو تعرفون مروءة أخرى، لا يعرفها من سارعوا الى مسخ ذاكرتهم الفردية والوطنية والإساءة الى ضمير بلادهم، كسبيل لتملق سلطات أوطانهم الجديدة وأفكارها.

"منطق" الأهوال العراقية
كان تقطيع نص (ودود) إلى عنوانات فرعية  كل منها يأخذ اسم "منطق"، ومنها "منطق العود" وهو نص في تجليات آلة عود تبدو توثيقا لأغنية العراق الشجية ، و"منطق الشجرة" حين يحترق قلب البلاد الطري و"منطق العين" حين الرؤية تتسع لكل ملامح الخراب، ومنطق " التنور" حيث الخبز الطالع عافية من النار والطين، وسيلة ناجحة في احالة النص الى تموضعاته الحياتية الواقعية، وتخليصه من هذيان اللغة والأفكار الذي عادة ما يصيب المهزوم والمنفصم نفسيا. وفي كل من هذه المقاطع، رصد آخاذ لجوانب ثقافية وروحية شكلت تاريخ بغداد المعاصر، فتحضر المعرفة والأنغام كما في "منطق التوأم" حين نتابع ما تكتبه فتاة عن آمالها التي تتضمنها منافسة مع اختها التوأم وتتجاوز "مدرسة الموسيقى والباليه" ببغداد. ومن ذلك المشهد المتصل ببغداد مربية وناعمة الى آخر يتعلق بأهوال الحرب، وتحديدا بصورة العراقي الأسير وكيس أسود في رأسه وهو يحتضن أبنه الصغير، في مساحة مسيجة بالأسلاك الشائكة ووصف أنطون للمشهد الذي عرفته أول أيام حرب 2003 وصولا الى جملة "أنا سمكة، بلا زعانف"، التي تكشف عن الافناء الرهيب الذي تعرض له الإنسان العراقي البسيط حتى لو اجتهد عدم التورط بأي من النزاعات المتواصلة. 
ان تعدد الأصوات والقطع المتواصل بين الأمكنة – المشاهد، لم يؤثر اطلاقا على سلاسة الرواية، بل انها الى جانب الإقتباسات من أعمال أدبية وفنية معروفة، تبدو وسيلة حاذقة كالتي يبرع فيها مونتير نابه وشديد الحساسية في أي فيلم سينمائي مؤثر. وجاء تطبيق انطون لذلك في نصه الأدبي الروائي وكأنه بناء للمشهد السينمائي: ثمة ايقاع متناغم يجمع الأحداث، ولكل حدث دلالة، ولكل دلالة موضعها في المسار العام الذي كان بسيطا لكنه ليس سهلا، بسيط لاستغراقه في البداهة الإنسانية، في التوق الطبيعي الى عيش يليق بالآدمية، حتى وإن بدا جو "فهرس" مستغرقا في حياة فكرية، لكنها تظل بلا أقنعة كاذبة، بلا استعراضات وحذلقات عادة ما يستغرق فيها المثقفون، انها من نسق تعبيري يتصل به سنان أنطون وتشكل من خلاله وعيا ونتاجا ووجودا مؤثرا: ثقافة يعنيها السؤال الانساني المنشغل بالتعبير الجمالي عن قيم الحرية والعدل والسلام، في وقت تبدو بلاد الكاتب وأبطال اعماله الروائية، وهي تنوء بتداعيات الحروب والقمع والحصارات، وتلاحقهم كمسارات حياة و وجود، أكانوا داخل الوطن أم خارجه؟ وهذه مروءة ثالثة، انتمى إليها صاحب "فهرس" الذي انتمى عميقا إلى " أولئك الذين تمحوهم سردية المنتصر وتحاول دفن أصواتهم في تراب النسيان". وهذه مروءة اخرى تعبر بالكاتب إلى جوهر مهمته التنويرية.
واذا كان الانتصار هنا للضحايا، شعارا عريضا، فانه عبر الدأب والمعرفة والاجتهاد عند انطون، تجاوز مأزقه لجهة التعبير المباشر عن الموقف السياسي او الاجتماعي، نحو صوغ أدبي وفني رفيع، تتداخل فيه الذات مع الضحايا لا بمعنى التضامن الخارجي، بل ان يكون هو صوت الضحية وضميرها، ونجاحه في استحضار نمير (اميركيا) وصورته الأخرى ودود (عراقيا) في "فهرس" أكد هذا المعنى، فأصبحت الضحية لا في موقع التضامن الأقرب الى الإشفاق، بل التعبير عنها عميقا وكأنها ذاته. انه لم يتردد عبر شخصية الأستاذ في جامعة أميركية  عن التضامن مع ضحية من نوع آخر، ضحية التلفيق السياسي والفجاجة التي يمثلها مواطنه الذي كان مترجماً للجيش الأميركي في العراق وحصل على منحة للدراسة، متحدث بعرفان عن مآثر من قاموا بالتخلص من صدام وانهاء الديكتاتورية في البلاد. وثمة حيرته حيال تلميذه الأميركي الذي كان يتعلم العربية ويتهيأ للاشتراك في حرب العراق. وهنا كان بناء المشهدين فضلا عن الحوار فيهما، بعيدا عن المباشرة والشعور التحريضي، حتى وإن تضمن فظاظات فكرية ولغوية، فهي جسدت لوعات الغريب ووجده وغضبه. 
ومع نهاية النبض العراقي المحلي الممثل بـ(ودود) ضمن مسار متوقع يأتي تتويجا للخراب الوطني الشاسع، تكون القيم التي انتصر اليها انطون قد عرفت محنة حقيقية، اذ تبدو البلاد اليوم وقد نضبت فيه المروءات لفرط ما عاشت من آثام.
 



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM