نقد أدبي  



سند طابو لمكان بسعة وطن 2-2

تاريخ النشر       31/12/2017 06:00 AM


علي عبد الأمير عجام*

وطنية مهذبة 
دون ان يقول لك مباشرة، لكنها يؤكد فكرة على امتداد كتابه، أن الوطنية ليست شعارا سياسيا أو دعائيا، بل أنها تتناقض كليا مع الزعيق الآيديولوجي والتحشيد تحت أي لواء وذريعة. خذ مثلا "سوف أمخر دوما بحارا أجنبية كمسافر، ثم كمهاجر لا يأمل العودة، لكنه أبدا يستعيد تذكاراته مع الماء والنهر والمسرات البغدادية التي لا مثيل لها". وحين أقول وطنية مهذبة، فأنا أقصدها تماما، إذ هي وطنية على نقيض عصبيات العقائد وفجورها بحق الإنسان حين تستخدمه أداة رخيصة لتأكيد تفوقها وكونها الأجدر بالسلطة والوجود، فالآلوسي يقدم أمثلة على وطنية ممكنة عبر "ثمة جذر يظهر دائما يذكرنا بهويتنا الحضارية، سواء كان نقشا، أو من لطائف السلوك". تصور كم هي ممكنة هذه الوطنية "المهذبة" التي يمكن أن تتأكد عبر سلوك لطيف هو المترجم الحقيقي لكونك سليل حضارة، وليس عبر الصخب التافه حول "حضارة عمرها ستة آلاف عام".
ومن دعائم تلك الوطنية، ذلك الثناء العالي للأمكنة وجمالياته "هناك كنت أطيل الجلوس متأملا دجلة في التفافه المهيب، وقباب أضرحة الأئمة في الكاظمية أمامي ومقبرة آل البيت. من هناك كنت أسمع أصوات المطبات الناتجة من مرور العربات على الخشبات غير المثبتة على الجسر العائم الذي يربط الأعظمية بالكاظمية. كانت أصوات رتيبة كإيقات الجاز الحديث". ولنلاحظ هنا أي تدريب "مهذب" على معرفة المكان وحياته ضمن نسيج مختلف لا علاقة لها بفكرة الوطنية السياسية التي بإمكانها ان تلغي ملايين المشاهد على شاكلة ما يرسمه الآلوسي، من أجل إعلاء فكرة تقسر الحقيقية من أجل تأكيد "أممية" ما أو "قومية" ما أو "طائفية" ما. 
وهذه الوطنية حتى وإن بدت "مثالية" هي التي منحت المعماري معاذ لاحقا فكرة استلهام المعرفة من المكان المعيوش "برغم المدة القصيرة التي سكنت فيها عائلتي هذه الدار، إلا انه كان مدرسة عملية في تأملاتي عن النسق الحضري". هي وطنية الإنتصار للمكان كمدى للفاعلية الإنسانية بالأمس واليوم وغدا، وهي نقيض البشاعات الفكرية بل حتى المعمارية التي تشاع اليوم كاسلوب حياة في بلاده: "كان ذلك التخطيط يستلهم النسيج الاصلي لمدينة بغداد المأسوف عليه. اليوم جشع المال راه يشوّه هذا النسيج، ويحول الدور إلى زنزانات تقبض الروح".



هي وطنية "تلقائية" لا تلفيق في بواعثها ولا إدعاء في جوهرها ووجودها، هي التي تعني شطآن الأنهار الناعمة الباردة وعبورها سباحة في الصيف، مثلما تعني عند الآلوسي"إنشاءات سد دوكان اثناء ما كان يجري العمل على تشييده. بدت لي، أشبه بموقع فضائي على كوكب آخر". مثلما هي نسيج سلوك "قيم الكرامة والكفاية والنزاهة وحب الناس والخير، حب التعلم وتمجيد المعلم، عدم التعالي، احترام الكبير، الاستناع للرأي الآخر والوثوق بالصديق والصداقة، العطف على الطفل والضعيف، مساعدة المحتاج، نصرة المظلوم وبالطبع حب المرأة، ولنلاحظ جيدا إن تلك القيم ليست متوارثة وفطرية بل هي قائمة وفق أسباب محددة "تربيتي البيتية، ومن مدرستي، والمعلمين، والبيئة الاجتماعية الشاملة التي كانت تستدخل الحداثة وتستوعبها بهدوء".
نسيج القيم الأخلاقية والمعرفة الحديثة لا تشتغل عليه وتزيد من تماسكه غير الطبقة المتوسطة، والآلوسي إبنها الحقيقي، هي نتاج المعرفة الحديثة مثلما هي نتاج قيم أخلاقية تتوهج بالتطور الفكري المناصر للحق والعدل،  تلك الطبقة التي سحقت بلا رحمة، إذ هي ضد سلطة الدين وضد سلطة العشيرة وضد سلطة الأحزاب والعقائد والحكم الغاشم، فسارع ممثلو كل هذه الأطراف إلى قتلها وبلا رحمة. وكتاب الآلوسي نوع من التوثيق الإنساني لتاريخ الطبقة المتوسطة العراقية في صعودها منذ ثلاثينيات القرن الماضي حتى سبعينياته حين بدأ انهيارها، وانهيار المجتمع لاحقا.

المصائر المجهولة والعجيبة
في كتاب "توبوس" نسق رحيم يتمثل باستعادة مشاهد وحوادث لشخصيات تعكس مصائر عجيبة، تذكر بحيوية انسانية جديرة بالإحتفاء حتى وإن انتهت فجائعية قاتلة في حزنها، ولو قدر لي شخصيا بشيء من الوقت الرحيم، لتفرغت كليا لمشروع يقوم على سرد حكايات أبطال تلك المصائر لما فيها من ذخائر وعبر، ومنها حكاية الجار الذي "يتكتك" على الآلة الكاتبة في سطح بيت مجاور لبيت الآلوسي، هو موظف مهم غير رسمي في السفارة البريطانية، معروف بإسم غير اسمه الأصلي ويكتب تقاريره تحت النجوم، وكان من أوائل المغادرين لبغداد بعد 14 تموز 1958، أو محمد الإسكافي الذي أوصى بدفنه في قبر على شكل مهبل امراة، وأيضا حسقيل اليهودي الذي يدور على البيوت كي يستبدل الملابس التي يقدمها الناس بما يقدره من فرفوري (بورسلان)، وكيف توجه إليه شبان على دراجاتهم بقصد مضايقته وإيذائه، مما أدى إلى سقوطه وتحطيم ذخيرته من الفرفوري، ما دفع بالشهود الصغار (معاذ وصحبته) بالتوجه إلى أمهاتهم وجمع مبلغ يعين الرجل الذي "رفع رأسه إلى السماء، ودعا لنا أن يقينا الله من أي شر. كان قد ذاب خجلا من لمستنا الحنون الانسانية، ممتلئا بمشاعر العرفان والشكر".
ومن المصائر العجيبة ذاتها، ذلك الذي انتهت إليه فاطمة شقيقة سالم الالوسي الذي تدرج في سلك الخدمة الخارجية وارسل للعمل في السفارة العراقية ببرلين نهاية ثلاثينيات القرن الماضي  لكنه قتل في قصف للحلفاء طال العمارة التي يسكنها حيث كان في ملجئها أثناء الحرب العالمية الثانية. طال غيابه وطال انتظار فاطمة المرير له حتى فقدت عقلها وصدمت معاذ بمنظرها وهي حافية لا تهتدي إلى سبيل. بينما تظل حكاية مالو الذي " بلا تاريخ ولا زمن"  عامل سينما الاعظمية بـ"جسمه القوي المتصخر عضليا"، نوعا من الأمثلة القوية عن عمق المجتمع وفرادة شخصياته حتى ضمن مستوياتها الشعبية البسيطة، وما أورده الأستاذ الآلوسي عن تلك الشخصية يوفر سيناريو جاهزا، لإولي الألباب من سينمائيين ومخرجي دراما.

ثقافة التوحش الريفي والحزبي 
دون أن ننسى من تلك الشخصيات الفريدة مدرس الرسم فاضل عباس الذي "تصعلك" فجأة، فـ"راح يمشي وحيدا شاردا متجولا في الشوارع مهلهل اللباس، منتعلا نعالا مفتوحا مصنوعا من دواليب السيارات"، مرورا بحكايات ذي مسار خاص يمثلها شخوص على درجة من الحيوية والخصب، كغازي إبن عمة الآلوسي الذي هاجر إلى أميركا وصار اليوم من اكبر محضري الوجبات الغذائية المجففة، وشخصيات "جماعة الـ 47" الألمانية التي تحققت نسختها العراقية في بغداد الستينيات عبر "الجمعية البغدادية" التي هزت ركود الحياة الثقافية وقللت من توحشها الريفي والحزبي والحكومي المكفهر، فتأسست من "رفعة الجادرجي وزوجته بلقيس شرارة، قحطان عوني، نزار علي جودت، ألن جودت، الدكتور خالد القصاب، جبرا ابراهيم جبرا وغيرهم"، وصولا إلى "الكفشكان" نادي الجاز الذي أسسته الجمعية وصوت إلهام المدفعي يصدح فيه وسط مشاعر غضب متوقعه من أخيه قحطان، بسبب لهو الأول بالموسيقى وتركه الدراسة، دون أن ننتهي مع مصائر شقة الآلوسي البيروتية في الطابق السابع، حيث الحريق والتدمير الذي طالها في حرب الأخوة الأعداء ومرثية الشاعر بلند الحيدري لها.

صنعة السرد وخفة دم الكتابة
جرأة لا تخفى جاءت عليها كتابة الآلوسي، فمع التحية المستحقة للقيم الرفيعة ثقافيا واجتماعيا، ثمة النقد العميق لظواهر اجتماعية وفكرية وسياسية، في سياق لا يخلو من الطرافة النابهة، فحكاية "التبعبص" كعادة اجتماعية عند شبان عراقيين لم يترددوا عن ترك بصماتها السخيفة على فنان رقيق كالملحن الموهوب والمطرب والممثل المصري محمد فوزي الذي حضر ضيفا على بغداد لافتتاح سينما الأعظمية، دون أن ننسى تلك الإحالات المباشرة عن الحياة الجنسية للكاتب وشباب زمانه البغدادي، في جرأة تحسب للآلوسي، حيث اعتاد كبارنا من المثقفين والسياسيين والشخصيات العامة اغفال هذا الجانب الطبيعي وتقديم حياتهم وكأنهم من "أولياء الله الصالحين" وليسوا بشرا عاديين، فهو يخوض بنا في أوحال حقيقية وليست مجرد استعارة لغوية حين يصف تجربته في حي الدعارة بالبصرة، لنخرج بحصيلة عن "قذارة" الدناءات السلوكية والأخلاقية. في الكتاب أيضا، خفة دم الكتابة كما في تعبير "النأي بالنفس عن العيش الوسطي البايخ" أو في قوله "كنت أفسد على مهل"، كذلك في "وجدتني في شقة، على الرغم من صغرها، مكتظة بالجنس الأنعم من الناعم، وعبق باريسي فواح يشجع على الرذيلة"، مثلما هي كتابة بارعة وخلاقة، كما في وصف صاحب المذكرات لرحلته على متن "قطار الشرق السريع"، ووصفه يوميات حياته في ألمانيا للتدريب الهندسي واكتساب المعرفة العلمية والاجتماعية، وتحديدا مع "عائلة رومبل"، حد أنك تكاد تشم رائحة الأطعمة وتتحسس ملمس الأفرشة والآثاث، وشكل انعطافة الشارع ومدخل المترو، لفرط الاناقة التي جاءت عليها طريقة الآلوسي في عرض التفاصيل دون بهرجة لغوية واستعارات لا معنى لها.
عالم بل عوالم من الفتنة والثقافة الثرة يقدمها لنا معا الآلوسي، في كتابه "توبوس" الذي جاء بمثابة سند "طابو" لمكان يناهض عوامل الفناء والتهتك رغم بطش القوى المتوحشة التي أمسكت بتلابيبه  منذ عقود، فراح "الجمال يسحق في بلادي ويتشوه فيه المعنى الإنساني".



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM