قصة شخصية: بغداد والعالم المعاصر من خلال موسيقاه 1

تاريخ النشر       31/01/2018 06:00 AM


علي عبد الأمير عجام*
هل كان ذلك محض صدفة؟ أن أنجذب الى عوالم خارج السياق الذي كانت تنضوي فيه حياتي: أن اذهب إلى نتاج فني لم أتشكل في بؤرة تفاعلاته الحيايتة والاجتماعية،  لكنني وجدت نفسي في تدفق تياراته وبواعثه الاساسية وظواهره الأكثر تحديثاً.
ما الذي جاء بي إلى لقاء" الاغتراب" الأجمل من حلم؟ كيف انتهيت إلى هذا التعايش الحميم بين صخب حياتي الذي سببته حروب ومخاوف وبين محبة للأنغام ستتحول غواية وجدتني أزداد انغماساً فيها حدّ انها أصبحت دلالة عليّ، إسما ومعنى!
انها الموسيقى، غناء أو ألحانا صرفة "الموسيقى البحتة" وباشكالها الأكثر تحديثا، وبالذات تلك التي ينتجها (الآخر) وما تتضمنه من رسائل تبث إلى بقاع العالم المختلفة، أو حين تكون لحظة مختصرة للتعبير عن جوانية غاضبة أحيانا، متأملة قليلا، ولكنها "مغايرة" في كل الأحوال.
هو اغتراب أجمل من حلم، بدأ من نغمة راقصة في أغنية Yellow River في العام 1970 وجدت صدى في ذائقتي المتقلبة وتطلعاتي التي كانت تتوزع حينها بين رغبات من نوع: أن أتحول إلى المسيحية رغم انني من بيت وثيق الصلة بالمرجعية الشيعية، أو " التطوع" في المقاومة الفلسطينية وتحديدا في "الجبهة الديمقراطية" وتلقي عقاباً قاسياً من السلطة الحاكمة التي كانت ترفض أي علاقة مع فلسطين إلا من خلال تنظيمها البعثي: "جبهة التحرير العربية"، أو وضع علامات " الهيبيز" على مواقع من ثيابي و أحذيتي.
واذا كانت الغيمة الرومانسية في أغنيات فيكي لاندروز تحط قريبا من أكتافي، فإن أغنية She is a lady  لتوم جونز كانت كفيلة بفوران لحنها أن تدفعني إلى عالم حسي بدأت من خلاله اكتشاف الجسد الأنثوي ومباهجه، حد انه ذلك الاكتشاف بلغ جماله المطلق مع أغنية Venus  التي رقصت على لحنها الايقاعي الرشيق صحبة فتاة جريئة في مرقص مفتوح كانت توفره كازينو "لونا بارك معرض بغداد الدولي" . 
بغداد يومها مدينة مفتوحة وقلبها منتعش بالأمل ولن أنس ما حييت ملامح مراهقة جميلة كانت تسأل في محل لبيع الأشرطة الموسيقية بشارع السعدون عن أغنية Sex Machine  للمغني الاميركي جيمس براون.
كان ذلك في " إعدادية المأمون" 1970-1973 حين تعرفت إلى شبان مهوسين بالنغم، ومعهم اكتشفت ثراءً روحياً في اغنيات "البيتلز"، ومن خلال بوابة الفريق الانجليزي الشهير بدأت صلة بالانغام بوصفها قراءة اجتماعية.

في إعدادية المأمون ببغداد 1970-1971 أنا على اليسار، عامر عبد الصاحب فعلاء خزعل

هل لأحلامي تلك أن تشيخ إذ أستعيدها اليوم بعد أكثر من أربعة عقود؟ 
ها أنذا أشكّل تاريخاً شخصياً لبغداد من خلال الموسيقى وتحديدا الموسيقى الغربية المعاصرة، غير إن الأمر ليس مجرد حكاية نغمية ولا مجرد استعادة نساء تغمرهن عاطفة وهاجة أو بهجة رجال أنيقين وهم  يخرجون من حفل موسيقي شهدته بغداد أواسط سبعينيات القرن الماضي للمغني الظاهرة في حينها: ديميس روسيس !
وإذا كان الأمر صعبا، فكيف لي أيضا ان انسى الاتصال الذي بدأته اواخر السبعينيات تلك مع ألحان الفريق الغنائي Pink Floyd  : ألحان غاضبة، طبول مرعبة وأصوات مجروحة؟ وكيف لي أن أخفف الصدمة التي حملها غلاف إحدى اسطواناتهم، الصدمة التي استوعبت علاماتها وتطامنت لاحقا مع إشاراتها: ثمة رجل وسط  الشارع، يمد يده مصافحا توأما له ولكنه كان يحترق؟ 
من تلك المفارقة البصرية بدأت أدخل "الجانب الآخر" من عالم "البوب" الجانب الأكثر عمقا والذي يختفي تحت سطح الاعلانات المبهرة والظواهر الرائجة، وبدأت ألاحق قصائد الغضب وبوسترات الاحتجاج ضد اغتراب يكاد يعصف بالانسان المعاصر- ألم يعصف بعد؟
ومن بوابة "الغضب" الموسيقي بدأت تتهشم رومانسية المحبين في قصائدي لصالح موضوعات أكثر تركيبا وأعمق رؤيا ودلالة، هكذا وجدتني انخطف ببنية السؤال كمؤشر وعي مختلف وطريقة مختلفة في الكتابة فرميت بالتفعيلة متجها نحو " قصيدة النثر" التي كنت اتصلت بنماذج "أصيلة" منها في مجلة "شعر" الممنوعة من التداول في الأسواق العراقية، غير انني عثرت عليها في "المكتبة المركزية" التابعة لجامعة بغداد. وإذا مثّل هذا الانتقال "نهاية" للتوافق الذي كانت وصلته قصائدي الأولى مع الوقائع الشخصية المتصلة بقوة مع حال الانفراج الفكري والسياسي الذي كانت عليه الحياة العراقية حتى أواخر  السبعينيات، فان سقوط " الوثنية اليسارية" في تركيبي الفكري الشخصي دفعني بقوة إلى شكل شعري يناسب الانهيارات الواقعية .

تعويضا عن خسارة روحية وفكرية
في السنوات الاخيرة من السبعينيات كانت"البحبوحة" الاقتصادية تتسع في بحيرات عسلها، والنفوس كانت تستكمل بناء فلل عزلتها كلما ازدادت نهما في مقاربتها الحياة، كأن السلطة انتهت من وضع معادلتها: دعهم لسعاداتهم ولتضيق المرافىء بالاعتدة. تلك كانت لحظة لحظة التشييع الرسمي لجنازة المعنى، ونزول الستارة على "مسرحية" الانفتاح اليساري التي أضفت طابعا دراميا على صفقة مستحيلة بين فكر استغرق في أحلامه كثيرا وعقل تدميري يجيد المراوغة والتلفيق والحذلقة وقبل ذلك يجيد بناء دهاليز الموت .
لم يعد النغم "مثاقفة"، ومع المسار"التراجيوميدي" ذهبت إلى اختيار بهجة ما في الموسيقى الغربية المعاصرة تعويضا عن خسارة روحية وفكرية، فجاءت اسطوانة Saturday Night Fever  للفريق الغنائي Bee gees لتفتح في بغداد وعواصم كثيرة في العالم "العصر الذهبي" لإيقاع الديسكو، فتعالي يا أنغام المراقص المجنونة، تعالي أيتها الأذرع، تعال يا خصر امرأة مبتهجة بأولى تجاربها في الثمالة. 



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM