قصة شخصية: بغداد والعالم المعاصر من خلال موسيقاه 3

تاريخ النشر       02/02/2018 06:00 AM


علي عبد الأمير

أحلام ما بعد الحرب
في أيام بحثي عن رغوة بهجة في الأغنيات لم أعر عملا جبارا مثل The Wall للفريق الغنائي Pink Floyd، عدا أغنية واحدة، ما يستحق من اهتمام، غير إن أحزاني في الحرب قادتني إلى اكتشاف أسطوانة الفريق ذاته والصادرة في خريف العام 1983 ونصحني يالاستماع اليها، الصديق سعد، صاحب محل "تسجيلات الرواد" الذي كان حتى أواسط عقد الثمانينات الماضي من أفضل بائعي الأغنيات الغربية في بغداد، وكانت الاسطوانة حملت عنوانا رئيسا هو    The Final Cut، أما العنوان الثانوي الذي جاء مداعبا أحزاني الشخصية فكان Post    War Dreams  .
في الاسطوانة أغنيات تنقب في ملفات الجراح الشخصية التي تخلفها الحرب: فثمة أغنية بعنوان "ذكريات رجال المدفعية"، أو "أزمان الماضي المحتملة" فضلا عن النقد العنيف للحروب كما في نهج إدارتي ريغان وتاتشر .
في  كتابتي عن تلك الإسطوانة وجدتني أكتب عن نفسي وعن حربي الشخصية،  كتبت عن ما يتطامن في روحي أو يتبدد،  روحي المختبئة في جسد حي مدفون في ملجأ تحت الارض،  ومن تعثر لغتي في الوصف والمراجعة والتحليل الموسيقي، وجدت الشعر ثانية ولكن في بحث آخر غير الذي اعتدته،  وجدته في لغة انفاسها متقطعة كما أشكال الجروح المتناثرة على امتداد الحدود.

 
الصورة من أعمال المصور الفرنسي غورييه لمعركة هور الحويزة 1984 
 
هنا عادت الملائكة إلى التحليق في حياتي مجددا مزيلة بأجنحتها الرقيقة آثار الثيران الوحشية التي لعبت معها طويلا خلال الاعوام 1979- 1982. هنا كانت لغة الشعر عندي صوتا مكتوما، على النقيض من الايقاع العالي في اللغة السائدة، لغة هي احتفالات تغطية الآلام بالشعارات أو اليافطات السود، لغة من فروسية بائدة وجعجعة أمجاد، لغة بايقاعاتها المنتظمة في الصدر والعجز تصبح كالشظايا التي كانت تأتي مطراّ ثقيلاً يجعل المدى أمامي وحلا رصاصيا دونما حد !

هامشي الشخصي
الافتراق كان دائما أقصر الطرق إلى التهميش، ومن هنا وعيت "هامشي" الذي كنته وحرصت على اعتباره "متن" وجود يكتمل. الأغنيات منحت " الهامشي" فيّ عناصر حيويته وأدامت بعضا من رومانسية كنت احتاجها، فالوقت يتسع للحب ولنشيده المجروح، وهكذا مضيت مع بيتي الذي انهكه الانتظار وتوتر الوعود مع توترات النار. فيه ظللتنا أنغام غنية رقيقة لجورج مايكل Careless Whisper بشجنها الجميل، وهكذا ارتشفنا عسل محبة صافيا من الحنين للمغني ستنغ قبل ان يغادر فريقه "بوليس" وهما King Of Pain  وأغنية Every Breath You Take  دون أن أانسى لحناً ما انفك إلى اليوم يلمع بسحر جمال خاص وهو لحن أغنية Home By The Sea للفريق الغنائي Genesis،  وجاءت الحفاوة على الأرجح بما قصده عنوان الأغنية ولحنها أيضا: اي ان يكون لي "بيت على البحر"، وهي كانت أمنية، تشبه تطلعاتي نحو بيت، ونحو هدوء وأمان، تطلعات صارت بحسب ايقاعات المعارك الصاخبة بمثابة الحلم الذي ينسف ويتهدم شيئا فشيئا. 
الصمت الذي كان يأخذني إلى "بحاره" البعيدة كلما ودّعت بيتي ذاهبا إلى الحرب في غياب لا يعرف مداه، والغياب الذي كان يعني جثث الأصدقاء والأقارب صار يتحول مساحات تتسع للحكي والاستطراد والسرد وهو ما وجد نظيره في الأغنيات، حيث بدأت الرومانسية تتقشر لتكشف عن عواءات ونداءات مجروحة،  مثلما كانت حقائق تتكشف وأخرى تتعدل وأوهام تنقشع.
حول هذه الملامح من الرعب الشخصي تشكلت صحبة لي،  صحبة بدت خارج الايقاع التقليدي للهدم المنظم الذي كانت تعنيه الحرب، صحبة تجد صياغات روحية تشبهها: ألحان من المغني ستنغ الذي كان يطيح بالصورة التقليدية لنجم البوب وليعطيها ملامح المثقف والمعرفي، وكم أحببت أغنياته في اسطوانة Nothing Like The Sun  ثم جاءني صاحب الأنغام المجنونة في فرادتها وعمقها، المغني والمؤلف الموسيقي بيتر غبريال، فمن موسيقاه في فيلم Birdy  إلى أغنياته في اسطوانته الرائعة  So .
واذا كنت اجتهدت كثيرا في ملاحقة جديد النغم عبر وسائل شخصية تماما، فان ما كانت توفره ساعات البث في محطة اذاعة "بغداد أف أم" لأغنيات من نوع كان يجمع الحداثة والجودة في آن، منحني فرصة جدية لمراقبة النتاج الموسيقي لأكثر من عقد ومنحتني ذخيرة لا تنتهي من المواد الموسيقية النابضة بكل ما هو ممتع وجميل. 
ولو استعدت هنا الطريقة التي كنت فيها أحصل على تلك المواد لانكشفت حال من الشغف التي كنت اتعاطى بها مع ذلك النتاج الغنائي والموسيقي والذي أعانني فعليا على تجاوز مرحلة الموت الوحشي التي عشت تفاصيلها قذيفة قذيفة، فقد كانت أم أولادي تسجل لي (اثناء غيابي في الحرب)على أشرطة، برامج وساعات غنائية كنت أثق بذائقة معديها ومقدميها، والذين كان لي معهم نمط  فريد  من الصداقة القائمة على محبة النغم الرفيع، فمن الفنان الصديق مقداد عبد الرضا الذي تولى إدارة الاذاعة لفترة طويلة إلى الطبيب الجراح د.مهيمن نوري جميل والكابتن الطيار رعد دراز ومهندس الطيران صباح هاشم أمين. انهم كانوا جزءا من مجموعة تنتظم في صنع بهجة كانت تنطلق في اثير بغداد وعدد من المدن العراقية .
كانت تسجّل لي من البرامج الاسبوعية التي يقدمها "مهيمن" وأبرزها برنامج  كان يعرض بالمعلومة المبسطة والاشارات الذكية لأسطوانات جديدة تقدمها أشهر الأسماء في عالم الأغنية الغربية في الثمانينيات وهو برنامج Spot Light On A Album ومن برامج الكابتن رعد دراز كانت تختار لي Night Flight الذي كان فضلا عن اختياراته الغنائية الموفقة يتمتع باخراج ذكي يحاكي مهنة مقدمه الطيار المدني وفي لحظات كانت تشكل له متعة خاصة وهي " الطيران الليلي" التي جاء عليها العنوان. 

موسيقى العصر الحديث
مع امتداد سنوات الحرب اأصبحت الذائقة أكثر ميلا إلى الموسيقى المجردة، ولكن لابد من تعبيرات أخرى مغايرة غير التي حفظت ودرست وأحببت، غير باخ، بيتهوفن، شوبان، موتسارت وتشايكوفسكي، غير هؤلاء، وهكذا وضعت يدي على New Age Music أو "موسيقى العصر الحديث" التي لم تكن مجرد آلات موسيقية وصوتية ومؤثرات أليكترونية وحسب، بل تعبيرات معاصرة هي أشبه بـ"نثر"الموسيقى، فهي أنغام مكتوبة على الأغلب خارج السلم الموسيقي، ومثلما "قصيدة النثر" تحقق ايقاعاها خارج "الوزن"، هنا الموسيقى الجديدة تحقق "الهارموني" خارج السلم الموسيقي.
في هذا النوع من الموسيقى شغلني المؤلف اليوناني الأصل فانجليس في غواية مطولة عبر أعماله ومنها China الذي جاء سياحة في الفكر الصيني وحضارة بلاد السور العظيم، أو العمل الـتاملي في الحياة وجانبها الآخر: الموت والذي تضمنته اسطوانته "احتفالات التراب" Soil Festivities ، كما أسرتني المؤلفة ديبورا هينسون كونان لتذهلني بعملها Night of The Rose، وجاءت "وردتها" ندية حقا في الليل ووحيدة، ثم وصلت إلى المؤلف اليوناني الأصل ياني كريستوماليس أو كما عرف على نطاق واسع Yanni بأعماله التي نقلت الموسيقى من أجوائها النخبوية إلى آفاق الذائقة الشعبية.

هوسي الموسيقي إلى المسرح البغدادي
كما وتعرفت على المؤلف للعديد من الموسيقى التصويرية للأفلام الأميركية، براد فيدل، ومن واحدة من مقطوعاته اخترت المقدمة التي جاءت عليها الموسيقى التصويرية التي اخترتها لمسرحية المخرج الموهوب ناجي عبد الأمير"الحريم" عن نص أعدّه الكاتب علي حسين، والتي عرضها في "منتدى المسرح" ببغداد في خريف العام 1993، وكانت المقطوعة المنفذة اعتمادا على ضربات متوترة ونشيج كمانات، معادلاً موسيقياً لمشهد الافتتاح في المسرحية: الممثل (خالد علي) يدخل مأزوما الى عالم من "حريم" مسكون بالخفايا والأزمات. 
قبل تلك التجربة كنت عملت مع شاعرين ومسرحيين هما الصديقان عبد الخالق كيطان (اعداد مسرحي) وكاظم النصّار (اخراج) في اعداد الموسيقى التصويرية لمسرحية مأخوذة اصلا عن نص الالماني هاينريش بول وجاءت مسكونة باعباء ومخاوف وأزمات انسان ما بعد الحرب، وكنا جميعا ومثلنا البلاد خرجنا إلى أزمات مابعد حرب الخليج الثانية 1991، وفي العرض الذي حمل لصانعيه عددا من أبرز جوائز مهرجان منتدى المسرح 1993 استخدمت مقطوعات تبدأ من Pink Floyd ولا تنتهي باللحن الاساسي لأوبرا "كارمينا بورانا".  
أول  CD Player  في مسارح بغداد
وشهد ذلك الهوس الذي تكرر مع مسرحية أخرى من إخراج ناجي عبد الأمير، استخدامي أجهزتي الشخصية المتقدمة تقنياً تلك الأيام، فعرفت عروض المسرح العراقي أول مرة استخدام الأقراص السمعية المدمجة. 
ففي العام 1985 زرت، صحبة الصديق صباح هاشم أمين، منزل مقدم البرنامج الموسيقي الجميل "Night Flight"في اذاعة بغداد أف أم، الطيار في الخطوط الجوية العراقية، رعد دراز، والذواق الرفيع للنغم الغربي المعاصر، لأكون أمام ما كنت قرأت عنه مطولاً: مشغّل اسطوانات مضغوطة، او "سيدي بلاير".. كان من نوع فيليبس، فضي اللون، بدا لي عالماً ساحراً، لا سيما ان الصديق دراز اختار اسطوانة مدهشة زادت من سحر الجهاز، الا وهي "احتفالات التراب" للمؤلف الموسيقي والملحن اليوناني الأصل فينجالس.
خرجت من منزل الطيار والصديق الوسيم دراز، مسحورا بجهاز الموسيقى الجديد الذي قد يكون أول جهاز من ذلك النوع الذي انتج أول مرة في العام 1982.
في العام التالي كنت اقتنيت مثيلا لذلك الجهاز الساحر، الذي حزنت عليه كثيرا، حين اضطررت الى بيعه، مع عدد من الإسطوانات، بعد 3 سنوات، لبقائي على مدى أشهر بلا عمل اثر انتهائي من الخدمة العسكرية. ثم لاستعيد الأحلى والأجمل منه منذ العام 1992 في ولع طال عامين بالاجهزة الموسيقية المتقدمة في النوعية والكفاءة، من مسجلات ومشغلات اسطوانات عادية فضلا عن السيدي بلاير والسماعات الجبارة التي كانت تهدر بالانغام حد هزّ زجاح النوافذ بقوة.
أول "ووكمان"
صنعت النسخة الأولى منه في العام 1980 حين أبهر العالم، ومنذ اوائل العام 1981 صار رفيقي الأمين في محاربة القهر والكآبة والرعب التي تعينها سنوات الحرب والخدمة الطويلة في حقول الموت الواسعة.
استعيد صورتك الآن أيها "الووكمان" فأتذكر كيف تعرضت بسببك إلى تعليقات سخيفة لمنظري وانا أضعك في حزام سروالي وسماعتك حول رأسي، وكيف تعرضت للتحقيق بسببك، لأنك كنت غريباّ ولم يعرفك أحد من قبل في بغداد، لكنك منحتني وقتا أنيساً من خلال مئات الاعمال الغنائية والموسيقية وانغامها الرفيعة. شكرا ايها الصديق الوفي.
وأول مسجل – كاسيت نقّال
بعد اقتنائي مبكرا جهاز "ووكمان" الذي كان أول جهاز تشغيل نقال للموسيقى بامكانيات الصوت الستريو، وكان قلة في بغداد في العام 1981 قد اقتنوا الجهاز لسعره المرتفع أولاً ولعدم استيراده من قبل الحكومة (الجهة الوحيدة المخولة) ثانياً، لا بد من التوقف عند تلك الغواية خاصة بالأجهزة الخاصة بتشغيل الموسيقى، التي بدأت حقا في العام 1970 حين كنت في "متوسطة المعتصم" ببغداد، حين حملت ضمن سفرة مدرستنا إلى بحيرة الحبانية (بموقعها السياحي المتواضع القديم)، جهاز مسجل كاسيت فيليبس العجيب في وقته، إذ كان من أوائل أجهزة تشغيل الموسيقى النقالة، فقد كانت اغلبها ثابتة وتعمل بالتيار الكهربائي. 
في تلك السفرة العجيبة، كان الجهاز السحري علامة امتياز لي بين زملائي، فضلا عن موسيقاه التي تتصاعد: عبد الحليم حافظ يغني جديده حينها "زي الهوى"، انغام رقصات "التويست" و"الروك أند رول" وهو ما دفع مجموعتنا الى وضعه على الرمال وتشكيل حلقة من المرح والسرور حول ذلك الجهاز العجيب. 




 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM