فريد الله ويردي إبن العراق المستنير1

تاريخ النشر       25/03/2018 06:00 AM


علي عبد الأمير عجام*

أنتج العراق المتعدد قومياً ودينياً في أجواء من الرحابة الفكرية والإجتماعية النسبية التي سادت عقود ما بعد تأسيس الدولة العراقية 1921-1963 مئات المواهب الفريدة في مختلف حقول الثقافة والعلوم.
من هؤلاء الموسيقار فريد الله ويردي المولود في البصرة بجنوب العراق 1923. وكان والده عيسى نوري طبيباً من  أهالي كركوك وأمه فكتوريا أوسكانيان أرمنية من عائلة معروفة في اسطنبول. وأمضى فترة طفولته المبكرة في البصرة التي كانت تتسم بالتعددية الإثنية والدينية ويقطنها أبناء مختلف القوميات المحلية والوافدة. 
هناك ووسط هذا التنوع الخصب، أتيحت له فرصة نادرة للتعرف على طيف واسع من الأصوات: أغاني أمه الصغيرة بالعربية والأرمنية والتركية والفرنسية، صيحات الباعة في الشوارع، شحّاذ من البدو ينشد مع الربابة، مواكب الأعراس في الشوارع مع قرع الطبول وعزف الزرنة، الاطفال يرددون الآيات القرآنية، الدرويش الهندي الجالس في ظل نخلة وهو يردد كلمات غير مفهومة، بينما يتعالى صوت المؤذن داعيا الناس إلى الصلاة، قس كلداني ينشد ابتهالات من الكتاب المقدس، وغير هؤلاء أولئك الذين تركوا فيه جميعا أثرهم، مما جعله يتجاوز الحدود الاثنية والدينية والقومية(2).
 ظهرت موهبته الفنية في سن مبكرة حين كان في الخامسة من العمر، وكان يقلد أمه في الغناء ويبتكر الألحان على آلة الماندولين ويمارس الرسم تحت إشراف والدته وتشجيعها له. هذه الرعاية ودراسة الموسيقى عمليا في البيت تحوّلتا لاحقا إلى الانشاد باللغة الكلدانية في قداس الكنيسة والمشاركة بشكل بارز في مختلف جوقات الغناء المدرسية. 

إلى بغداد الفيّاضة بالأمل
وحدث في عام 1944 أن وجدت العائلة الاستقرار في بغداد التي كانت تعيش حركة سياسية واجتماعية وثقافية هادرة. ووجد فريد عندئذ الفرصة  لدراسة الموسيقى على أساس اكاديمي تحت اشراف أساتذة أوروبيين في معهد الفنون الجميلة. فصار يدرس أصول العزف على الكمان مع الأستاذ ساندو ألبو (روماني) في آن  واحد مع دراسة القانون في كلية الحقوق  في بغداد. واعترف الجميع آنذاك بأنه طالب موهوب جداً في الموسيقى. ووصفه استاذه ألبو "الموهبة الوحيدة في العراق في مجال التأليف الموسيقي". وبعد التخرج من كلية الحقوق في عام 1948 كرس فريد نفسه كلياً إلى الموسيقى وتطويرها في العراق.
في فترة 1950-1952 حاز فريد الله ويردي على زمالة للدراسة في باريس في قسم الدراسات النظرية العليا تحت اشراف هنري شالان وفرانسيس- بول ديميلاك. 
في باريس إستوعب ويردي واستخدم  إنجازات الاتجاهات الأسلوبية الجديدة في الموسيقى، ودرس بامعان أعمال الملحنين الذين بوسعه التعلم منهم. ونظراً لمثابرته وموقفه من قضايا الفن بلا هوادة استوعب بسرعة كل ما هو "تقدمي" في عالم الموسيقى. 

فريد الله ويردي في باريس 1951

وفي عام 1951 ألّف أول مقطوعة له هي "روندو للجيتار والكلارنيت" التي عزفت في العام نفسه في بغداد التي عاد إليها عام 1952 ليمارس تدريس نظرية الموسيقى والهارموني في "معهد الفنون الجميلة"، ويشكّل مع زملاء له "جمعية بغداد الفلهارمونية" كما انضم إلى مجموعة "موسيقى الحجرة" التي تألفت من: البروفيسور جوليان هرتز/ البيانو، البروفيسور ساندو ألبو/ الكمان الأول، وارتان مانوكيان/ الكمان الثاني، فريد الله ويردي/ الفيولا(الكمان الكبير)/ البروفيسور أندريه ثيروير/ التشيلو، وواصل ويردي العزف مع هذه المجموعة حتى عام 1959.
العراق الجمهوري: الآمال المجهضة
كان ويردي من آلاف المتعلمين العراقيين المؤمنين بفكرة الحرية والهوية الوطنية بعيداً عن كل أشكال العسف والتضييق، والذين وجدوا في إسقاط النظام الملكي 14 تموز/يوليو 1958، أملاً واسعا لأفكارهم وتوقعاتهم.
من هنا كان موسيقارنا مندفعاّ نحو تأييد ذلك التحول الذي ما سيلبث أن يكون فاتحة لصراعات دموية رهيبة حتى بين أولئك القادة العسكريين الذين أسقطوا النظام الملكي،  ففي العام  1959، كتب فريد الله ويردي، إنشودة "المنصورية" التي أهداها الى الشعب العراقي.
لنلاحظ دلالة الاسم، فالمنصورية، هو المعسكر الذي انطلقت منه قوة بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم  في شمال شرق مدينة بعقوية نحو بغداد لإسقاط الحكم، إي إن الرجل لم يجد غضاضة وهو الفنان المرهف في استلهام عمل عسكري ارتبط بأحداث دموية ضمن عمل موسيقي، وهو أمر ليس غريباً على الفنانين والأدباء في تلك المرحلة "الثورية" ليس في العراق وحسب، بل في مناطق عدّة من العالم.

إلى كونسرفتوار تشايكوفسكي
ولأنها عمل يهلل لحدث قوبل في المعسكر الشيوعي بالتأييد والحفاوة، فقد تم عزفها في حزيران/ عام  1959 من قبل الاوركسترا السيمفونية للأذاعة والتلفزيون بموسكو بقيادة إليكسي كوفاليوف. وبث تسجيلها على نطاق واسع، وغالباً ما كانت تذاع من قبل مؤسسة الاذاعة والتلفزيون العراقية بعد خطب الزعيم عبدالكريم قاسم مما أكسبها شعبية كبيرة.
ومهّدت تلك الحفاوة إلى سفر ويدري في كانون الأول/ ديسمبر 1959 إلى موسكو لمواصلة تعليمه في كونسرفتوار تشايكوفسكي، حيث درس في قسم نظريات الموسيقى والتأليف تحت إشراف البروفيسور ي .غولوبيف، فضلا عن دراسة أساليب توزيع الآلات بإشراف البروفيسور ن . ب.راكوف، تحليل الاعمال الموسيقية بإشراف عميد القسم ف . ف.بوبوروفسكي، البيانو العام بإشراف الاستاذ ف . ج.سمولياكوف ، طرائق التعليم الموسيقي بإشراف ت .ن.فيودوروف، والهارموني والبوليفوني(تعدد الأصوات) بإشراف  الملحن المعروف أ.ج. شنيتكه، لينال شهادته في التأليف الموسيقي بدرجة "امتياز".
في عام 1964 قدم موضوعة كتابه " نظرية الموسيقى". ونوقش الكتاب في قسم نظرية الموسيقى في كونسرفتوار تشايكوفسكي وتم التأكيد على إن الكتاب يتناول لأول مرة  خصائص الموسيقى العربية، مما جعله يستحق الترجمة إلى الروسية كمرجع للدراسة في كونسرفتوار موسكو. 
شارك فريد الله ويردي في كونسرفتوار موسكو بنشاط في الحلقة الموسيقية التي شكلها عدد من الملحنين الطلاب (يوسف اندرياسوف و جيفاني ميخايلوف وبوريس توبيس وغيرهم) بالقيام بتسجيل وجمع النماذج من اجل دراسة وتحليل اعمال الملحنين المعاصرين. 

من الإتحاد السوفياتي إلى أميركا
في عام 1963 وقع الانقلاب العسكري الدموي في العراق، لتصاب آمال ويردي بأول خيبة كبيرة، حين حكم النظام البعثي- القومي عليه غيابياً بالاعدام عن تأليفه " المنصورية"، واعتبرته السلطات " شيوعياً" بسبب أفكاره ومواقفه المؤيد لعبد الكريم قاسم، واحتجزت جواز سفره وألغيت زمالته. وفيما بعد  اضطر إلى النزوح الى الولايات المتحدة حيث عاش مع أفراد أسرته. وهناك واصل دراسته على حسابه الخاص تحت اشراف البروفيسور دونالد روبرت في كلية هنتر  في جامعة سيتي في نيويورك، وحصل على شهادة الماجستير في التأليف الموسيقى، وقررت لجنة التخرج في القسم بأن عمله أحد أفضل الأعمال" المقدمة إلىها.
وخلال وجود فريد الله ويردي في الولايات المتحدة (لنلاحظ دلالة المكان، فقد وجد ملاذاً في الدولة التي كان يقف بالضد من نظامها السياسي وفكرتها فيما هرب من الدولة التي توقعها جنة على الأرض واعتراضا على موقفها المهادن من الانقلاب الدموي في بلاده، وهذه خيبة ثانية أصابت آمال الرجل بمقتل حقيقي)، انتدب (في 1965- 1968) لتأليف المقطوعات من أجل المهرجان السنوي للموسيقى الأمريكية في نيويورك. 
وكتب هناك حيث عمل مدرّساً في كلية ستيت جلاسبورو في نيوجيرسي، أربع مقطوعات مهمة هي: "ابتكار في نغم ثلاثي للبيانو" 1965، "سوناتا الكمان والبيانو" 1966، "فانتازيا للكمان" 1967، و"سويت صغير للكمان" 1968.
يتبع.......

هوامش
 (1)تعبير "العراق المستنير" من مقالة للباحث والمؤرخ د سيار الجميل 
(2) "فريد الله ويردي.. رائد الموسيقى الكلاسيكية في وادي الرافدين"، لودميلا الله ويردي / ترجمة: عبد الله حبة، "المدى" ملحق "عراقيون" 15أيار/مايو 2013


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM