فريد الله ويردي2: مواجهة "البعث" وأحقاد منير بشير

تاريخ النشر       26/03/2018 06:00 AM


علي عبد الأمير عجام

العودة إلى بغداد
في عام 1968 صدر في العراق عفو عام  عن المنفيين السياسيين، وتملكت فيردي الله ويردي مشاعر البهجة والحماس للعودة إلى بغداد، كي يقدم معارفه التي يحتاجها الجيل الثاني من الموسيقيين العراقيين. وأتاح تشكيل الائتلاف الحاكم الذي ضم الديمقراطيين والقوميين والشيوعيين وبقية الأحزاب (1) استعادة موقعه السابق كمدرس موسيقى  في معهد الفنون الجميلة، ولكن بنفس الراتب الذي كان يتلقاه في عام 1959 بدون أية تعويضات لقاء ما حققه من نجاحات في الدراسات العليا.
 لقد كان يحب وطنه العراق أصدق محبة (2) لكنه ما كان يغمض عينيه حيال ما فيه من مآس وهزات، بل إن الموسيقار  الراحل، كان من ابرز المؤلفين الموسيقيين العراقيين الذين عملوا على إنهاض الثقافة الموسيقية العراقية المعاصرة، واحتل مكانه في  طليعة الحركة الموسيقية الكلاسيكية في العراق.
الحلم الكبير ويردي، كان أول مؤلف موسيقي، وبالرغم من الطغيان السياسي في العراق، أن يتجاوز عبر النغم الرفيع حدود وطنه، وأن يقدّم نتاجاته على الساحة الموسيقية العالمية. فعُرفت مؤلفاته في الولايات المتحدة وفرنسا واليابان وروسيا وسويسرا وسورية ومصر والعديد من بلدان الشرق الاوسط  في الحفلات الموسيقية وبرامج الإذاعة والتلفزيون. 
موسيقى وقانون وخمس لغات
وتمثّل سعيه الفكري هذا، بمزج حسه الفطري في التأليف الموسيقي للآلات الوترية، لأنه تعلم العزف منذ البداية على الكمان والكمان الكبير(الفيولا)، وشارك في العزف مع "رباعي بغداد الوتري"، وبينما كان يقوم بدراساته النظرية والتطبيقية في الموسيقى، واصل التعليم الجامعي في كلية الحقوق التي تخرج منها في عام 1948. وكان يتقن عدة لغات ( العربية والفرنسية والانجليزية والروسية والتركية وشيئا من اللغة الكردية). 

البحث عن الهوية
لقد كرّس فريد الله ويردي جل تأملاته وجهده للبحث وكشف الاساليب المميزة للموسيقى المعاصرة بغية ليس ابداع لغته الموسيقية الخاصة به فقط، بل لأستحداث قاعدة يمكن ان تقوم عليها التوليفات الممكنة بين منظومتين مختلفتين ومجموعتي تقاليد موسيقية متباينة هما: الأشكال الموسيقية  في الحضارة العربية – الإسلامية والأساليب المميزة للموسيقى المعاصرة العالمية.
وقد نما عنده الحس الفكري في البحث عن هوية "نغمية" وهو ما ساعده لاحقاً في تشكيل أافكاره الجمالية في الموسيقى العالمية عموماً وفي تقاليد الموسيقى التقليدية العراقية بشكل خاص، حين مثّلت أعماله محاولة لإكتشاف العناصر الجمالية والثروة الموسيقية الكامنة في "مقام الصبا"، أشهر المقامات العراقية، فجذور موسيقى فريد الله ويردي تمتد عميقاً في تربة الفولكلور الشعبي والتقاليد الكلاسيكية. وقال مرة "أصبو إلى أن أنجز ولو مرة واحدة عملاً يمثل موسيقى عراقية معاصرة جديدة – أي ابداع شكل ذي بنية فوقية يقوم على أسس جمالية وموسيقية تتجاوز حدود السمات الوطنية".
كان يؤمن بأن تطور الموسيقى الجادة عموماً وتأثيرها الابداعي بصورة خاصة، يمثلان أكبر التحديات التي تواجه الثقافة في البلدان العربية، وهو ما حمله إلى المشاركة في العديد من المحافل الموسيقية الدولية في موسكو، باريس ووارشو والقاهرة وآلما-آتا (كازخستان) ودوشنبه (طاجيكستان)، حيث نوقشت قضايا الموسيقى التقليدية (المحلية) والمعاصرة. كما ألقى المحاضرات حول مختلف القضايا القضايا الموسيقية وبالاخص تلك المتعلقة بمشاكل التوليف بين مختلف الثقافات الموسيقية والتعددية الثقافية  والأممية  ذات السمات المميزة من أجل تشجيع عملية التفاهم المتبادل بين من ينتمون إلى مختلف الحضارات.
في عام 1969 عارض خلال ندوة عقدت في باريس فكرة مفادها إن الموسيقى الغربية (الأوروبية) تشكل خطراً على الموسيقى التقليدية للشعوب والبلدان خارج المنظمة الغربية بـ"هدف صيانة وحماية الموسيقى التقليدية المحلية ووضع خطة لوضع حد لهيمنة الاتجاهات والتأثيرات الغربية في الموسيقى".
مثلما عارض في عام 1969 فكرة شهدها المؤتمر الدولي الثاني للموسيقى العربية المنعقد في القاهرة بعنوان " نحو موسيقى عربية عالمية"، وأكد خلاله بطلان هذا النهج في الموسيقى، بل واقترح تأسيس مراكز للموسيقى التقليدية واستحداث ارشيف للموسيقى الشعبية والتقليدية، وفي الوقت نفسه تطوير الموسيقى العربية الحديثة بتوليفها مع المسارات المحلية والهوية المميزة لكل شعب.
وكان يؤمن بأن من الواجب تعريف الانسانية بالايديولوجية العربية ويعتقد في الوقت نفسه إن من الواجب مقاومة الغزو الثقافي الاجنبي المبتذل، وإن "من الواجب رفع مستوى تقديمنا للتراث العربي الأصيل بغية أن يكون مؤثرا لدرجة ان أي تيارات  أجنبية  لا تستطيع حجبه"(3).
في عام 1970 أسس فريد الله ويردي "مركز الموسيقى العراقية التقليدية" في مؤسسة  الاذاعة والتلفزيون في بغداد، وأجرى خلال عامين (1972- 1974) مسح شامل وتسجيل الموسيقى التقليدية والشعبية في جميع انحاء العراق ( العربية والكردية والآشورية والتركمانية وغيرها.
وتم تصنيف المواد التي جمعت من أجل استخدامها في الأغراض الأكاديمية والعامة. وقد استخدم  فريد الله ويردي هذه التسجيلات في محاضراته العامة والاكاديمية في الخارج وفي مقالاته المختلفة، بغية تشجيع التفاهم المتبادل بين الناس من ذوي الخلفيات الثقافية المتباينة.

حقوق الموسيقيين
وشارك فريد الله ويردي بنشاط  كموسيقي وحقوقي في تأسيس اتحاد الفنانين في العراق. وإهتم على الاخص  بضمان حقوق الموسيقيين، لاسيما المغنين والموسيقيين الشعبيين، الذين لا توجد وظيفة دائمة لهم ولا ضمان التأمين الاجتماعي لدى فقدانهم القدرة على الأداء. وبهذا ضمن لهم حق التقاعد.  وأراد ان يرفع منزلة الموسيقيين في العراق بغية ألا يقول أحد شيئا حول الوضع الهامشي للموسيقيين في العراق وتبعيتهم إلى الرجل القوي الذي يمنحهم فرصة العمل.
وركّز ويردي الاهتمام على أهمية توفر الدعم الحكومي الرسمي لخريجي المعاهد الموسيقية  الذين سيتولون مهمة نشر الثقافة الموسيقية. وتتسم بالأهمية على الأخص مسألة تأسيس فرقة اوركسترا سيمفونية وطنية تغدو بمثابة القلعة التي تنهض منها الحركة الموسيقية العراقية والعربية.

المواجهة مع السلطة
كان فريد الله ويردي يقف متفرداً، ولم يرغب  في التنازل عن مبادئه والتعاون مع نظام البعث، لذا "كانت حياته محفوفة بالصعاب دوماً"(4). وحاول النظام تحطيم مثل هؤلاء الاشخاص معنوياً، فالرجل كان واسع المعرفة، كما كان لا يهادن في كل ما يتعلق بالمعايير الفنية، ويحمل أفكارا إنسانية عالية ويتمتع باستقلالية روحية وشعور عال  بالكرامة الانسانية، دون النظر إلى طلب المال والشهرة.
ووجد لدى عودته الى بغداد في تشرين الأول/ إكتوبر 1968 مشهداً محزناً في مجال الموسيقى، فقد كانت الفرقة السيمفونية قد ألغيت قبل ذلك بعامين، وغادر الكثير من الموسيقيين الواعدين البلاد الى الخارج. وكانت الفرصة الوحيدة أمام الموسيقيين للحصول على عمل هي التدريس في معهد الفنون الجميلة. 
كما علم ان انشودة " المنصورية " ما زالت ممنوعة بالرغم من صدور العفو العام، وبدأ حزب البعثة باضفاء صبغة سياسية على التأليف الموسيقي، فعرض عليه "أحد منظري حزب البعث المعروفين أن يؤلف نشيداً وطنياً جديداً مقابل منحه " تفويضاً مفتوحاً" في مجال الموسيقى وتولي منصب رئيس قسم الموسيقى  في معهد الفنون الجميلة،  لكنه رفض ما دام الحظر ساريا على "المنصورية " التي كتبها للجمهورية الأولى بزعامة عبد الكريم قاسم.
في عام 1972 تأسست مدرسة الموسيقى والباليه في بغداد. وكان فريد الله ويردي عضوا في اللجنة التي ناقشت مستقبل المدرسة وتلامذتها. وكان يرى ان المدرسة يجب ان ترسي أساس التعليم الموسيقي في العراق. واقترح ان يتم اختيار التلامذة الموهوبين في جميع انحاء البلاد وتوفير معلمين خاصين ومساكن للإقامة وتقديم المنح لهم وضمان مستقبلهم بمنحهم زمالات دراسية  لمواصلة التعليم الموسيقي في خارج البلاد بغية ان يكون لدى العراق موسيقيون محترفون سيتولون تحقيق التطور الموسيقي في البلاد ورفع مستوى الموسيقيين في المجتمع. ولكن اللجنة لم توافق على ذلك، وتم التأكيد على ان الاطفال في المدرسة ينتمون الى افراد الطبقة المتوسطة في بغداد التي تستطيع ايجاد المدرسين الخصوصيين لأبنائهم، لكنهم لن يسمحوا ابدا لأبنائهم بأن يصبحوا من الموسيقيين المحترفين.
في عام 1972 طلب شفيق الكمالي (وزير الثقافة آنذاك، وأعدمه صدام حسين  فيما بعد) من فريد الله ويردي أن يلحّن النشيد الوطني باستخدام قصيدة من أشعاره. وحاول اغراءه بالمال والمنصب لكن فريد رفض ذلك.
وقال فريد الله ويردي عندئذ :" إنني رجعت الى بغداد بقرار هو ألا أؤلف مبدئيا  أية موسيقى قد تكون لها علاقة بالسياسة. إنهم واصلوا بصورة مباشرة أو غير مباشرة  طلب ذلك، لكنني واصلت تجاهل طلباتهم بقولي أنني لم أعد مؤلفا موسيقياً. وقد سئمت  ضغوطهم المستمرة كما انهم ضجروا  مني أيضا".

منير بشير الحقود
كانت حكومة حزب البعث تطرح نفسها من الناحية الايديولوجية بكونها قومية ومعادية للإمبريالية. واتبعت وزارة الثقافة بتأثير من الكمالي ومنير بشير نهجاً آيديولوجيا في الموسيقي ضد الموسيقى الغربية باعتبارها "امبريالية"، ليصبح حملة ضد فريد الله ويردي في مجلة "القيثارة" التي تصدرها دائرة الفنون الموسيقية برئاسة منير بشير، واتهمته بـ"العمالة للغرب والامبريالية وبأنه يريد القضاء على الموسيقى الوطنية التقليدية".
في عام 1975 قال طارق عزيز (وزير الثقافة آنذاك وقريب الصلة بمنير بشير) في إجتماع مع الموسيقيين العراقيين أن "فريد الله ويردي شخصية خطيرة يريد القضاء على الموسيقى الوطنية ولا يستحق لقب المواطن العراقي فهو رفض تأليف النشيد الوطني".
ويقول الباحث والمؤرخ د. سيار الجميل (5)"لا أكشف سرّاً أبدا إذا قلت إن الموسيقار فريد الله ويردي تمرد على سياسة رسمية تقليدية كاملة تبناها الفنان العازف الشهير منير بشير، الذي بدأ يعمل على تجريد العراق من كل ما بني من محاولات موسيقية تجديدية وفنية للارتقاء بالفن الموسيقى عموما منذ الثلاثينيات والاربعينيات (من القرن العشرين)، وأن يغدو العراق في قابل الأيام واحداً من البلدان التي تعتز بمدرستها الموسيقية العالمية نظرا للجهود الدولية التي أسسها الموسيقار الشريف محي الدين حيدر في بغداد، ويعتبر هذا الأخير مدرسة فنية شهيرة عالمياً".
وينقل الجميل عن فريد الله ويردي قوله "ولكن السياسة الفنية التي اعتمدها منير بشير رسمياً على عهد النظام السابق عكست خطى مدرسة تقليدية تراجعية من نوع آخر، فهي تؤمن إيماناً راسخاً بالتراث والعمل على تطويره وابقاء القديم على قدمه. علماً بأن الموسيقى والفولكلوريات التراثية العراقية غنيةٌ جداً بكل أشكالها ومضامينها. ولكن هذا لا يصلح أبداً للتطور الموسيقي، وهو تطور معقد بحاجة إلى علوم مختلفة لا تقبل أبداً مبدأ التطريب واستنساخ النوتات القديمة او تحريفها وتزويرها وتقديمها إلى الناس باعتبارها أعمالاً مبتكرةً". 
إن "منير بشير - كما يراه ويردي - ليس فناناً حقيقياً، وكل ابداعه هو مجرد تقليد تراثي لا أكثر ولا أقلّ. ويرى ان أخاه الموسيقار جميل بشير عملاق له قدراته وموسوعيته وابداعاته ومدرسته على عكس منير، وكثيراً ما كان ويردي ينتفض إذا ما ذكر اسم منير بشير أمامه! انهما بالفعل يمثلان مدرستين مختلفتين تمام الاختلاف .. واننا نرى بأن مدرسة التقاليد والتراث هي التي انتصرت بقوة القرار السياسي المتخلف الذي حكم العراق في العقود الاخيرة من القرن العشرين .. إذ تراجعت واختفت مدرسة التطور والإبداع في العراق وكان الموسيقار فريد الله ويردي واحدا من روادها المؤسسين". 
ومنذ أواسط سبعينيات القرن الماضي، جرت ملاحقة فريد الله ويردي بإستمرار. ولم يسمح له بالسفر ووضع بريده وهاتفه تحت الرقابة، ولم يكن باستطاعته الاتصال بإصدقائه من الموسيقيين في الخارج. وفي عام  1981 أصيب فريد بنوبة قلبية وأحال نفسه الى التقاعد بصعوبة. وصار في هذه الفترة يبحث في العلاقة بين الموسيقى والدماغ. وعمل في الفترة من 1976 وحتى 1981 في تقديم دروس في التذوق الموسيقي إلى طلاب الدراما في أكاديمية والفنون الجميلة بجامعة بغداد، ووضع الأساس لإفتتاح قسم للموسيقى فيها.
وحاول النظام تقديم رشاوى الى فريد الله ويردي بصفة " تكريم". في البداية قدمت له سيارة وفي المرة الثانية النقود. لكنه لم يقبل هذا التكريم وتجاهله لأن قبوله كان سيعني أنه جزء من النظام  الذي كان يهدم مستقبل التطور الموسيقي في العراق.

فريد الله ويردي في منفاه 1991-2007

وفي عام 1991 هرب فريد الله ويردي من العراق إلى الاردن بعد حرب الخليج حين "حاول النظام إرغامه على تبجيل  النصر في حرب الخيلج بمقطوعة من تأليفه"(6).
عمل فريد الله ويردي طوال عشرة أعوام في تدريس الموسيقى في جامعة اليرموك في أربد. وخلال وجوده في الأردن آثر الاعتزال وتجنب إعطاء أحاديث صحفية (7) وحضور الاجتماعات من اجل تأمين سلامته شخصيا وسلامة  أفراد عائلته. وبدا له الأردن ليس مكانا آمنا له لأن عملاء النظام العراقي كانوا ينشطون هناك(8). 
وقدم طلباً للجوء ليستقر به المقام في ايرلندا في عام 2002 التي أحبها وأحب شعبها الذي احتضنه وعائلته وعاملته بإحترام، فتمتع فريد الله ويردي بعضوية مركز الموسيقى المعاصرة في ايرلندا وشارك في نشاطاته. وواصل التأليف الموسيقي وكتب دراسة عن الموسيقى في العراق  ودراسة عن تأثير الموسيقى في الدماغ وطابع بنية الانسان واخلاقياته.

يتبع........

هوامش
(1)المقصود هنا "الجبهة الوطنية والقومية التقدمية" تموز/يوليو 1972.
(2)و(3) و(4) و(6) "فريد الله ويردي.. رائد الموسيقى الكلاسيكية في وادي الرافدين"، لودميلا الله ويردي / ترجمة: عبد الله حبة، "المدى" ملحق "عراقيون" 15أيار/مايو 2013.
(5)د. سيّار الجميل، "رحيل الموسيقار العراقي القدير فريد الله ويردي.. طارت شهرته في الغرب  وبقي في الشرق معلم نوتة"، موقع "إيلاف" وموقعه الشخصي 2007.
(7)يؤكد هذا كاتب السطور، من خلال عمله ناقداً موسيقياً في جريدة "الرأي" الأردنية، فقد رفض الموسيقار الكبير إجراء أي حوار حول مسيرته الفكرية والانسانية وفنه.
(8) كما كان (الأردن) مستقرأ لخصمه اللدود منير بشير.



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM