النص.. وطن الشاعر المنفي الشاعر في المنفى، اكتشف علاقته في المكان على درجة من الوضوح، وصارت ثنائية الوطن/ المنفى تثير المزيد من الأسئلة لديه وتدعوه الى البحث عن وسائل وأشكال تعبيرية أخرى تلائم الوضع الجديد الذي رشحت عنها خسارات جديدة تتصل بعناصر غير ملموسة يخسرها المبدع في هجرته، لأن حواسه التي تربّت وترعرعت في بيئة أخرى تعاني من شعور بالاضطهاد والغربة لا يمكن التغلب عليه وربما احتاج الى زمن طويل لتعويض هذه الخسارة(11). ولعل في هذا ما يفسر تواتر النزعة الملحة لدى الكثير من المنفيين للعودة الى عوالم الطفولة ونشاط الكتابة عن هذه الأجواء بما يصل في أحيان كثيرة إلى حدود النوستالجيا التي يرى فيها البعض عائقاً أمام التعبير عن التجربة الروحية بشكل رفيع:
"كل أم تهتف .. يا ابني أنا، أكاد أجيب"(12) إذن المفارقة ملجأ يوفر "الهدأة" و الطمأنينة لانطلاقة القدرات الابداعية، ويشهد أنماطاً غير محسوبة لدى هذا الكائن المهاجر أو المنفي:
"فأنا سهم أعمى ... منطلقاً في العتمة"(13)
في المكان الثالث الذي هو نص المبدع تتجلى التجربة الشعرية بكل ذراها, وانحداراتها الفنية وقدرة هذا المبدع أو ذاك على ايجاد الحلول الفردية التي تحميه من الانخراط في هذا الوضع المؤذي أو سواه، حماية لكينونته ووفاء لتجربته الإنسانية بكل معانيها المتفوقة:
"أرى مدناً نخرتها الجنود وأخرى رمتني ككلب طريد وراء الحدود, وأخرى تعلق – في الحرب – سروالها راية - أين نسيت القصيدة - لم أنسها كان محض جنوح إلى عزلة الروح تلزمني غابة للصراخ, ومجرة من دم كي أتم القصيدة"(14)
حول هذا الخلاص المكاني – الروحي من سطوة المنفى، تتغير المداخل، والرؤى وهنا تظهر أشكال متغايرة من الاستجابة، وتتعاطى مع موضوع واحد عدة حساسيات شعرية من جيل واحد، وهذا ما يحسب كعنصر قوة فنية لشعراء الثمانينيات، فالنص بقدر ما هو وثيقة تتشكل بمهارات لا غرابة أن كثيراً منها يتصل بالمتخيل، إلا أن المهارات في شعر الثمانينيات غالباً ما تتصل بعجائبي لكنه غير متخيل بل معيوش وذلك مستند لعجائبية المعيوش العراقي ذاته:
خارجون من رماد وأسوار وينابيع جافة خارجون بلا أجنحة متشابهون أقطف من التاريخ طفلاً, وأعلن كتاباً أبيض بلا حطام – لاهثون ... يفتحون حرائق. يغلقون حرائق. ويرشون المجرى بالسم, لتتدفق الأحداث كالدم, أنهار تغلي وعربات عاطلة وركاباً محنطين أتركهم كالطعنات ملامح بلا أجنحة وينابيع سوداً ورماداً بلا طفولة اضع حدوداً للفطنة واطلساً للقلب فمن أين يأتي رماد الوجوه هذا؟ كلما أغرقني صداك استعيدك, واضيئك بدمي(15)
أهو النص وطن المنفى؟ أم لغوي؟ أم أن حياة الشاعر وفاعليته، هما نصه؟ ومن هنا لا أرض لا تأريخ غير ما يتعلق بذلك أم أن الموضوع ينفتح على أسئلة خارج نص الشاعر؟: "من شدة الشعر نمت المعاني في حديقة المنزل".(16)
شعراء المنفى العراقيون: الاقتلاع أم الاتصال؟ إذا كان الشعراء العرب المنفيون على الأغلب وعبر إقامتهم في الغرب لا ينقطعون تمام القطيعة مع أوطانهم ومراكزها الثقافية لا بل انهم يزورونها بين فترة وأخرى، وإن كانوا على خلاف مع قيادات تلك الأوطان وحكوماتها، الا ان حال الشعراء العراقيين في المنفى لا علاقة لها بهذا الانتظام فهي حالة نفي شبه أبدية، طالما ظلت مبررات قذفهم الى المنفى مستمرة، وإذا كانت بلدان العرب ومراكز الثقافة العربية في غير بلد أوروبي قد إنشغلت لفترة برحيل شاعر كبير كالجواهري، فإن وفاته لم تحظ في بلده حتى بخبر صحفي صغير. من هنا تأخذ قضية المنفى بعداً شديد الخصوصية في حالة الشعر العراقي والثقافة العراقية بشكل عام، ومن هنا يمكن ملاحظة قرابتها لحال القطيعة التي اتسمت علاقة أدباء المهجر الأمريكي والأمريكي اللاتيني بأوطانهم أوائل هذا القرن، ومن هنا تصبح محاولة ايجاد قرائن تتصل بين أدب المهجر وأدب المنفى حالياً موضوعية تامة في حالة الشعر العراقي المنفي بخاصة. ومثل هذا الاستنتاج الكابوسي في قطيعة الشعراء العراقيون ومنهم شعراء جيل الثمانينيات عن بلادهم قسراً يتبلور في نصوصهم بشكل لا يخفى:
"دجلة يا أمنا يا ضحكة مكبوتة يا تاريخ كبت ويا سرنا الدافىء القاتل ... لأنك هناك وحدك ... بلا أيادينا ورؤوسنا ستستمر خسائرك"(17) إن قصيدة الجيل الشعري الثمانيني في العراق تطرح في أحد تمظهراتها مسألة مهمة، هي أن الحرب التي كانت حياة يومية في الوطن، لم تكن قصيدة إلا حين عبر هذا الجيل الى المنفى، ليؤكد بوضوح أن الوطن قصائد متواصلة، عبر الضفتين، وإن كتابتها لا تحتاج الى مزيد من الموت، بل إلى حياة خارج الحرب.(18)
"بغداد لماذا ... الوحيدة كلما احترق الزمان يخبئها الخلود وكلما احترق الزمان تأكل أبناءها لتنجبهم مرة أخرى وكلما احترق الزمان يرضعها الظلام طويلاً ثم يأكل ثديها بيرقها: دم على عباءة بعد أن نزفت النور منذ بدء السؤال تركها المحاربون نحلة تخط على البنادق إذا أحبّت ... تغيب وإذا أشرقت ... تنزف"(19)
الاقتلاع هو ما يميز صلة الشاعر العراقي في المنفى بوطنه، مما يحفز لا السؤال الذي يخضع كل يقين للمراجعة فحسب، وإنما يجعل اليأس من الوصول الى المكان الأول، يأساً من أمل بالحياة ذاتها، مهما كانت توصيفاتها المكانية وأين كان موضع الشاعر منها:
"لماذا لا أدخل بغداد؟ أدق على أكف الأبواب جميعاً مسماراً من الأسى لباب المعظم مسمارين من ضجر رائق ورمضان يرتجف للباب الشرقي ومسماراً من زهر السجون لباب القبلة ثم من يدها, الاصبع الذي لا يشير خاتم الفضة لباب الحياة المغلق أبداً"(20)
هوامش
(1) فاطمة المحسن: المنفى والتباس التسمية الأدبية سياسياً – جريدة الحياة/ ملحق آفاق 1/6/1998. (2) علي عبد الأمير وعدنان الصائغ: ملف عن شعراء جيل الثمانينيات في العراق – مقدمة ونماذج – مجلة (أدب ونقد) يناير (كانون الثاني) 1998. (3) محمد تركي النصار: شهادة عن الشعر الجديد في العراق – مجلة الكتابة الأخرى فصلية مصرية شتاء 1996. (4) كتاب "الموجة الجديدة" – عن مجلة الطليعة الأدبية – 1986 بغداد دار الشؤون الثقافية العامة. (5) راجع "تحت سماء غريبة" لعدنان الصائغ و "مزامير الغياب" لدنيا ميخائيل. (6) هاجر أو (أصبح منفياً) كل من: عدان الصائغ وباسم المرعبي ونصيف الناصري في السويد, عبد الرزاق الربيعي وفضل جبر خلف في اليمن, أمل الجبوري في المانيا, دنيا ميخائيل في الولايات المتحدة, علي الشلاه في سويسرا, محمد تركي النصار في كندا, عبد الحميد الصائح في دمشق وقريباً منه محمد جاسم مظلوم, فاضل الخياط في بيروت وصلاح حسن في هولندا, وسلام سرحان في لندن وحكمت الحاج في تونس وسعد جاسم وعلي عبد الأمير في عمّان ووسام هاشم سيغادرها الى الدنمارك وهادي القزويني في استراليا والنفي عن الحياة لرياض ابراهيم. (7) ياسين النصير: (آثاريون معاصرون – قراءة في ديوان فضل جبر خلف. (8) "نشيد لممالك الانسان" لنصيف الناصري – جريدة الزمان 15/4/1998. (9) من "النائم ومسيرته معارك" لمحمد مظلوم دار الكنوز الأدبية بيروت 1998. (10) "صحراء" لعبد الرزاق الربيعي – جريدة "ثقافة 11" هولندا, تموز 1998. (11) محمد تركي النصار – محنة المنفى داخل الوطن وخارجه – ملحق جريدة الخليج الثقافي، 1 حزيران 1998. (12) "صورة الأرض" للشاعر باسم المرعبي من "ثلاث مجموعات" – المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت 1997. (13) "ضوء أسود" لبرهان شاوي – المانيا 1997 (طباعة خاصة). (14) "تحت سماء غريبة" لعدنان الصائغ – منشورات البزاز عمّان 1994. (15) "عذر الغائب" لعبد الحميد الصائح – دار ثقافات كندا 1997. (16) نفس المصدر. (17) "بغداد" لهادي القزويني – نص مخطوط. (18) محمد مظلوم: تقديم لقصيدة طويلة لعبد الحميد الصائح "قصيدة العراق" دار ثقافات كندا 1998. (19) "عذر الغائب" – مصدر سابق. (20) "هولاكو" لوسام هاشم من قصيدة ضمن ملف عن آخر مشهد في الشعر العراقي, تقديم: علي عبد الأمير – مجلة "مشارف" – القدس وحيفا العدد السادس 1996.
* الجزء الثالث والاخير من ورقة نقدية قدمتها الى ندوة الشعر في مهرجان جرش العام 1998 وضمها كتاب صدر لاحقا في العام التالي عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر. |