نقد أدبي  



الشعر العراقي في المنفى ووعي المنفى: جيل الثمانينيات نموذجاً (2-3)

ِعلي عبد الامير

تاريخ النشر       09/12/2009 06:00 AM


نحو المغايرة كي يكتمل المشهد
بعد ان تعرفنا على خطوط عامة لظهور جيل الثمانينيات الشعري وارضيات ذلك الظهور ومؤثراته لا بد لنا من وقفة اخرى اقرب للنص وجوانيته، اقرب للاساليب الشعرية وانظمة اشتغالها، فان ما اعلنه النص الشعري العراقي ومنذ الثمانينيات من افتراق مع سيرة الانجاز الشعري السابق له، لم يعد مجرد مماحكة لغوية ومقترنة بالسن والتجربة الحياتية، بل ترسّخ في اتجاه بات يشكل مساراً يمكن قراءة ملامحه والتعريف بما وصل اليه جيل كامل من شعراء هم اصحاب تجربة نقلوا خلالها كل العناءات مزودة بمثاقفة حية مع التجارب السابقة للشعر العراقي – جيل الستينيات تحديداً لقوة مغايرته الكتابية والحياتية والتجارب العربية والمغايرة- في نصوص لم يكن من السهل تجاوز تأثيرها وحساسية تلك النصوص من ضائقة النشر وفرت لها قوة مهمة، حين جعلتها تهتم بعناصرها الابداعية وتلتم على تجميعها في مركز يثير الجدل، مركز مغاير للسائد ولكن دونما انعزال بل في انفتاح على انشطة كثيرة واهم ما في ذلك الانفتاح هو القراءة العميقة للمشهد الحياتي واعتباره موئلاً للكتابة الشعرية الجديدة. انها اعادة قراءة لذلك المشهد وبعيداً عن الطريقة التي احالت فيها التجارب السابقة ذلك المشهد الى اطر جامدة وتبويبات تثير الملل، فمن يقرأ نصوص الثمانينيين تلك ويراجعها ويتمعن في خطابها دونما مواقف مسبقة سيجد شعريتها بائنة وبحضور قوي، لغة تنشط في الاشتغال على انساق خاصة وبعيدة عن التداول ولكن دونما عودة الى انغلاقات معجمية او الوقوع تحت تأثير لعبة الغموض والغموض (الفج) احياناً.

محاولات الاعلان خلف الابواب الموصدة
نالت نصوص ذلك الجيل حفاوة من اوساط ثقافية عربية، لكنها في آن نالت من المؤسسة الثقافية العراقية السخرية والصمت! فتلك المؤسسة اوصدت ابوابها باحكام ففي الوقت الذي بتنا نقرأ فيه نصوصاً لشعراء من جيل الثمانينيات في (الكرمل)، (اللوتس)، (الناقد)، (مواقف)، (كلمات) و (اليوم السابع) نجد المؤسسة الثقافية الرسمية وقد حلت الموضوع حسب طريقتها: اهمال الموضوع برمته!.
محاولات الاعلان كانت فردية، تتسم بالاختراق الشجاع مثلما فعل الشاعر عدنان الصائغ حين كان يعمل في القسم الثقافي لمجلة (حراس الوطن) حيث نشر ملفاً موسعاً عن شعراء الجيل وبعنوان لافت: "الثمانينيون قادمون"، كذلك ثمة الفسحة التي اتاحتها لهم موضوعية شعراء مثل زاهر الجيزاني وسلام كاظم(4) حين اعدا كتاب (الموجة الجديدة) عن الشعر العراقي 1975 – 1985. وما اكده لاحقاً زاهر الجيزاني من تلك الموضوعية حين قدم ولاكثر من مرة نصوصاً مميزة لشعراء من الجيل عبر عمله في مجلة  "الطليعة الادبية" اواخر الثمانينيات كذلك الاعلانات والتمهيدات التي كان يكتبها الشاعر كمال سبتي في بابه الثقافي الاسبوعي "كلمات في المهب في " جريدة "القادسية". غير ان المفارقة كانت تأتي من جهة مجلة "اسفار" التي كانت تصدر عن "منتدى الادباء الشباب" وهي التي ظلت تبني عزلتها عن هذا الجو الذي يفترض ان تنتمي اليه طبيعياً: الشباب، التجديد، المغايرة ... الخ. هذه المجلة عادت الى بعض صحوها بعد ان طالت التغييرات هيئة وسكرتارية تحريرها حيث قدمت عدداً خاصاً مميزاً لشعراء الثمانينيات حفل بالنصوص والنقد والشهادات ايضاً وكان وثيقة مهمة في حياة الجيل نصياً ونقدياً.
غير ان المأثرة الخاصة بالشاعرين باسم المرعبي وخالد جابر حين اقتسما من العراق اضافة الى اللبناني يحيى جابر "جائزة يوسف الخال" للشعر عام 1988 هي التي قدمت جيل الثمانينيات الشعري في العراق عبر وثائق ابداعية راسخة وفوزهما بالجائزة اضافة الى قيمته المعنوية كإعتراف بموهبتهما، استطاع ان يزعزع النظرة الجامدة التي لاتخفي مرجعيات قسوتها والتي كانت تنظر نحو النتاج الشعري الجديد بكل ارتياب، كونه كما قلنا كان يحاول اكتشاف المشهد وتفصيلاته دونما الانسياق في الوصايا والاعلانات الرسمية في الرعاية.

أساليب متغايرة
كانت هناك اسماء تكتب وفق تقليدية الانماط الشائعة شعرياً حتى اواسط الثمانينيات،  وهذه كانت تجد من ينشر لها المجموعات، ويخصص لها زوايا اسبوعية فيما تسبق النصوص بعض المقدمات التي لا تخلو من حفاوة نقدية هكذا ظهر شعراء وفق هذه الحفاوة مثل (عدنان الصائغ، عبد الرزاق الربيعي، امل الجبوري، لهيب عبد الخالق، علي رحماني، دنيا ميخائيل، عمار عبد الخالق، فضل جبر خلف، حسن النواب، ريم قيس كبة، فاضل عزيز فرمان وعلي الشلاه)، وشكلوا مع بداية ظهورهم انتعاشاً وتجديداً للنمط السائد والتقليدي في الكتابة، لا في الشكل (اعتمادهم على التفعيلة فقط) بل في جوانب فنية (مضمونية) في نصوصهم التي بدت وهي تتماهى مع الواقع وتحاكيه دون ان تقدم صياغات تعبيرية لمحمولاته ودون ان تضيف لسيرة النص الشعري السائد شيئاً يذكر، وبسبب وصولها الى نقطة الفراغ تعبيرياً والانتهاء الى مأزق خمودها، عمل شعراء من اصحاب تلك التجارب على الافتراق عنها وتطوير نصوصهم فنياً وجعلها تخوض غمار التجريب، هذا حدا بهم الى خوض قناعات متجددة وافكار جعلتهم لاحقاً ينقذفون الى المغايرة وبالتالي (الافتراق) عن المشهد الشعري الذي منحهم المساندة اولاً ... هكذا نستطيع قراءة المحاولات التي اعلنها شعراء مثل (عدنان الصائغ، فضل جبر خلف و دنيا ميخائيل)، وفيها عملوا على تطوير تجربتهم واغنائها بمستجدات تعبيرية ومحمولات تأتي من جهة الاضطراب الحياتي الضخم الذي كان يحيق بهم مزعزعاً كل تلك الانتظامات والتماهيات مع اللغة واشاراتها ... انفرط الشكل الثابت، انفرطت اللغة – اليومية وتهمشت صورة الأنا ونرجسيتها، وتحولت تلك الغنائية الرومانسية الى فراغات نصية تعني الكوابيس التي بدأت تتقدم كل شيء(5).
في المقابل نجد اسماء شعرية اخرى ضمن ذات الجيل قدمت اعلانها الشعري بعيداً عن نمطيات لغوية او اشكال معتادة للنص الشعري فقدمت النصوص التي حفلت بمهارات كتابية وفق شكل قصيدة النثر التي حوربت بقسوة لما كانت تشكله من دعوة للحرية ليس في اللغة حسب بل في وعي الشكل وعي الكتابة وأدواتها، وبالتالي قادها هذا الى تعارض فكري مع نموذج سائد لا يخفي مرجعيته المحافظة والتقليدية والقسرية ... وهكذا نجد تجارب كتابية وقعها شعراء مثل: محمد تركي النصار، عبد الحميد الصائح، خالد جابر يوسف، صلاح حسن، رعد فاضل، سعد جاسم، نصيف الناصري، محمد مظلوم، وسام هاشم، علي عبد الأمير، احمد عبد الحسين، اديب أبو نوار، سهيل نجم، زعيم النصار، كريم شغيدل، سلام سرحان، رياض ابراهيم، باسم المرعبي، عبد الزهرة زكي، طالب عبد العزيز، حكمت الحاج، هادي القزويني، منذر عبد الحر وفاضل الخياط.
 وتجارب هؤلاء الشعراء كانت تتنوع على الرغم من وحدتها الشكلية، والاختلاف في النصوص كان ظاهراً مما يدل على حيويتها واكتسابها لعناصر لغوية اشتقاقية وتعبيرية خاصة فمن إعلانات لغوية تحاول أن تخفف وطأة شروحها وتعديلاتها اللفظية بادخال التلميح الواقعي والدلالة الاجتماعية الى نصوص تتماثل في إجرائيتها لكونها تنطلق من بؤرة واحدة هي الذات و تلاقيها مع المشهد الخارجي، كما أن نصوصاً أخرى شهدت تماثلاً من نوع مختلف حين نشطت في مهمة التقويل الشعري للتجريد الذهني والفكري على الرغم من اختلاف وسائل تثبت ذلك وانتاجه نصياً.

موسم الهجرة إلى المنفى
تقلص عدد الساعين الى الشعر في الجيل، لا بل تشذبت شجرة الجيل بأكملها لتصبح ممتدة باتساق من خضّبتهم بلمستها الخضراء لمسة الشعراء رغم الحرائق التي طلعوا منها، والتقلص هنا طال الشعراء داخل العراق وخارجه في آن غير أن اللافت هو في الهجرة شبه التامة لشعراء الجيل(6).
 وفي الفحص الأولي لنصوص الشعراء المكتوبة في أمكنتهم الجديدة نجد أن الشعراء المنفيين استوطنوا هواجس أرض ونفوس لا صلة تربطهم بها إلّا ما يمكن أن تمنحه البيئات الجديدة من إحساس بالأمان وتوفير ما افتقدته أرواح الشعراء: الطمأنينة والأمل بحياة لا يمكن أن تسقط بسهولة تامة في واحدة من فخاخ لا تنتهي تنصبها القسوة والعنف.
 وبدا جلياً وعي الشعراء للمنفى وانعكاس ذلك نصياً، حيث أنه جاء بعيدا كل البعد عن دلالته الأولية أو ما يحيل اليه بشكل عابر على أنه ابتعاد ونفي وغربة عن المكان الأول الحميم (الوطن)، بل وعي الدلالة العميق له، ألا وهو نفي الشاعر عن حقيقته الأساسية: فاعليته الإنسانية التي تحقق من خلال لغته ودوره التنويري والفكري والاجتماعي أيضاً. كأن مهمة الشاعر المنفي تشبه مهمة الآثاري، فهو ينقب باحثاً ولكن عن وطنه بين الآثار القديمة والجديدة(7):

إذا لم يكن لك وطن
فهذا يعني
أنك سيء الحظ جداً
أما إذا كان لك وطن
فهذا يعني
أنك سيء الحظ جداً!
والشاعر العراقي المنفي غالباً ما يحيل النفي إلى أرض "الهجرات والنار والحروب" ولكن ذلك لا يحيل الى يأس كما هو يشاع بشكل أولي عن الأدباء والشعراء بخاصة، بل يحيل الى قوة الأمل إذ تصبح معادلاً لوحشة المنفى لا عند الشعراء حسب بل في أفئدة وثنايا كل المنفيين:

منفيين جئنا أرض "عامورة" قال رفيقي:
سأفجر نبعاً
في هذه البطاح الموحشة, سأشعل ناراً
في صمت حلباتها
لكن امراء عراة يحملون صقوراً وأسلحة
اقتادونا الى كهوف مؤنسة
ونصبوا لنا المشانق, قالوا: "من أين جئتما؟"
من عهود الدم واللغات المتشظية
المجنونة
منفيين جئنا من أرض الهجرات المركومة
في النار
صعدت صوبنا الحروب والأزمنة
وأحاطت مشانقنا صيحات آلهة الريح
منفيين جئنا أرض عامورة
ومنفيين خرجنا(8)
وفي موضوع آخر من قضية المنفى كعلاقات ووقائع ساخنة وآلام ثم وعيها كنتاج أدبي، نقرأ نصاً يكثف (ثيمة) المنفى دونما استرخاء كأنها يقين ثابت لا يقبل المراجعة، بل عبر الأسئلة الساخنة المؤرقة الشجية المحزنة:

يا فرات
يا أخي في اليتم
كلانا قادم من أغنية غامضة
وآدم مأخوذ بتبديل صورته في الأعالي
فأينا هابيل ليعترف على مصبّه
لتنجب الحفرة لي
أخاً تائهاً توصيه بقتلي
يا فرات
أينا أشجاره مرّة وحزنه زلال؟
أينا حروبه ظلال تأكل أشجارها
كم من عابريك اليّ
وكم من عابريّ إلى ماء قديم؟
كم اندلساً لي وراءك
وكم رؤوساً على رماح؟
كم حزناً قتلت ليخفّ حملك
وكم قتيلاً أحييت ليشهدوا أنني أبوهم؟(9)
والشاعر هنا بقدر ما يكشف عن برودة تصل الى حد التجمد في مشهد المنفى حيث تطل الوحشة من كل علامة وكل رمز وكل عبارة في اللغة، إلا أنه يتدثر بعالم هو حصيلة كل هذا الوعي الشقي، المنبثق لا من أوهام الكتابة ونشاطها التزييني، بل من عمقها كرؤية وخطوة تتوق الى جعل الألم (إيجابياً)، فالمنفى رحيل متصل ورغبة وتوق لاكتشافات لا تنتهي، لاسيما أن مركز الرؤية ومركز الإطلالة على الذات والآخر قد تهشّم:

الهي بحق أفعالك التي أكومها
كل صباح
على الرأس والعين
بقوة صبر الشعوب المغلوبة
في الحروب البائدة على أمرها
لا أريد مُلكاً
ولا أطلب
بساتين عرضها السموات
والأرض
ولا أحلم
بامرأة جميلة من لدنك
اريد فقط جناحاً
يحملني بعيداً عن هذا الصحراء
المترامية الأصفار(10)

* الجزء الثاني من ورقة نقدية قدمتها الى ندوة الشعر في مهرجان جرش العام 1998 وضمها كتاب صدر لاحقا في العام التالي عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM