نقد أدبي  



سعدي يوسف وسامي مهدي: السيء والأسوأ

تاريخ النشر       27/02/2017 06:00 AM


علي عبد الأمير

1
في العام 2001 كتبت مراجعة نقدية موجزة لمجموعة الشاعر العراقي سامي مهدي، الجديدة حينها "سعادة خاصة" الصادرة عن دار الشؤون الثقافية ببغداد، والتي اختتمها بقصيدة مهداة الي الشاعر سعدي يوسف، و وضع في الإهداء الحرفين الأولين من اسم صاحب ديوان "الأخضر بن يوسف ومشاغله" إذ يكتب: "إلى: س. ي... ثمة مناسبة لذلك حتماً".
ويظهر مهدي في قصيدته "إعلال وإبدال" مستوي من الكراهية لشاعر قلّ نظيره في الكتابة الشعرية المعاصرة:
 كلما قلت: تاب
كلما قلت: ثاب الي رشده، واستقام، وتاب
نزّ قيحاً وسمّاً
وعضَّ رجليَّ عضَّ الكلاب .
و في مراجعتي تلك والمنشورة في صحيفة "الحياة"  08-11-2001، توقفت عند كراهية سامي مهدي لسعدي يوسف، وكيف انها تنبعث من مواقف سياسية مختلفة للشاعرين، فالأول أحد رموز ثقافة حكومية وحزبية في العراق استطاعت فرز الثقافة الي صنفين: مع الحكومة او ضدها ، والثاني احد الرموز الثقافية التي لم تجد الا في الخارج فسحة للحياة والتعبير ازاء القمع المنظم في الداخل. واتصالا مع هذه المواقف – الضغائن، وبعد وصف مهدي ليوسف بالكلب وطباعه، زاد على ذلك بان جعله "حرباء":
هو حرباء، في كل يوم له سحنة ورداء
وهو يبيع في كل يوم هويته
 ويبدّل ارضاً بأخرى
بحسب المواسم
أو بحسب النساء .

سامي مهدي العام 1982 يوم شغل منصب المدير العام للاذاعة والتلفزيون

وموقف سامي مهدي بوصفه المسؤول الحزبي والاداري (رئيس تحرير صحيفة الثورة الناطقة باسم حزب البعث الحاكم في العراق)، وصاحب الموقف الواضح والمباشر المؤيد لسياسات الحكم حتى الكارثية منها، فلا يتردد عن تحويل النص الشعري إلى مولّد للكراهية وصولاً إلى التنكيل. وفي قصيدته عن سعدي يوسف يقول:
سيان في شرعه
 ان يصيد الذباب في 10 داوننغ ستريت
أو يرمرم ما تركته الشغيلة 
عند متاريس قصر الشتاء 
ولم الظن فيه؟
فهذا نضال... وهذا نضال!
ولم العذل؟
ان هو لم يحترف غير ان يتسول من كل باب
وفي كل حال؟! .
وتنتظم في قصيدة "أحلام اليرابيع" فكرة روجتها دوائر الحكم في العراق من ان اهل جنوب البلاد، هم هنود جاءوا للعمل خدماً فيها:
قد جيء به من ارض الهند علي مركب فحم
 فبراه الجوع
وهداه الى سوق البصرة
يربوع آخر ذو ذنب مقطوع .
 هنا تحيل قصيدتا سامي مهدي الي سؤال كان الشاعر العراقي فوزي كريم اثاره في محاضرة له في عمّان اثناء زيارته لها قبل فترة: كيف لشاعر ان يبرع في قصيدته وهو ينطوي على كراهية، وعلى قسوة، وينتظم في مؤسسة لا تخفي عدوانيتها؟ في اشارة واضحة الي الشاعر سامي مهدي الذي تتردد عنه آراء نقدية تكرس شاعريته وتعتبره من بين ابرز اسماء جيل الستينات الشعري والأدبي في العراق.

2
في العام 2015 يكتب سعدي يوسف عن كتاب سامي مهدي "في الطريق إلى الحداثة"، دراساتٌ في الشِعر العراقيّ المعاصر " والصادر عن دار ميزوبوتاميا ببغداد عام 2013:
"أقول لَكأنّ هذا الكتاب آتٍ من زمنٍ سعيدٍ بعيدٍ ، يومَ كان العراقُ مؤهَّلاً للريادة في أكثر من مَنْشَطٍ . كانت تلك الفترةُ ، محتدَمَ جدلٍ ، في السياسة والثقافة، واختيار الطريق الأمثل . وعندما يحتدمُ الجدلُ ويحتَدُّ ، يولَدُ النقدُ . إذْ لا نقدَ في الأدبِ، إنْ لم يكن ثمّتَ نقدٌ في السياسة والنظرةِ العامّة إلى العالَم .اليومَ، باستثناء الأكاديميا العراقية، وحالتِها الخاصّة، يختفي النقدُ تماماً، لأنّ جدل الخيارِ الأمثلِ، أمسى خطَراً وحظْراً .من هنا احتفائي بالكتاب ، لأنّ فيه ما يُذَكِّر ( إنْ نفعت الذكرى )!
اللافت لا في تجاوز سعدي يوسف لوصفه من قبل سامي مهدي بـ"الكلب" و"الحرباء"، بل في الثناء على من جعله "اليربوع الجائع المحمول إلى البصرة من أرض الهنود"، فيقول:
 "لي أن أقول ( بل عليّ )، إن الأمانة والدقّة التي تحلّى الكاتبُ بهما، نادرتان في زمنٍ يتعجّلُ فيه الناسُ المعنيّون بمتابعة هذه الظاهرة الثقافية أو تلك، حتى لا يكاد المرءُ يثِقُ بما قيلَ أو استُنتِجَ .
شخصيّاً، أتوجّهُ إلى سامي مهدي، بالتحية ... لقد أرهقتُه، بسببٍ من تقلُّبِ وجهي في المسار الشِعريّ، حتى كلّفتُه خمسين صفحة من كتابه المرموق، لكن الرجل تحلّى بصبرٍ نادرٍ، حدَّ أنه رأى في مسيرتي الشِعرية ما يستحقُّ التقدير الاستثنائي".

3
تحول سامي مهدي من وصف سعدي يوسف بأبشع الأوصاف التي عادة ما يأنفها أي انسان على درجة بسيطة من الحصافة والالتزام الاخلاقي، إلى الثناء على تجربته أمر سيء حقا، ولكنه تقليد ضارب في الثقافة العراقية المعاصرة، إلا وهو الانتقال بسهولة من ذم الظاهرة إلى مديحها، ومن تسفيه كاتب ومثقف ما إلى رفعه نحو مصاف عالية، اعتمادا على غياب الضمير أولا وغياب الذاكرة النقدية الحقيقية، ومن موقف فكري إلى نقيضه بلا رفة جفن، وما فعله سامي مهدي هنا لم يكن إلا تنويع بسيط على هذا الإيقاع الثابت لا في الحياة الثقافية العراقية بل في مفاصل جوهرية تتعلق بالحياة الإجتماعية كلها. مثلما هو سيء ايضا ان يكون سبب هذه المكانة العالية لمهدي عند يوسف عائدا إلى كون الأول كتب مادحا الثاني. 
لكن الأسوأ هو ما يتصل أيضا بغياب الضمير وغياب الذاكرة النقدية الحقيقية، حين يصبح سامي مهدي، وعبر حارقي بخور من مثقفين يعملون في مؤسسات الدولة العراقية اليوم، من رئاسة الجمهورية وصولا إلى شبكة الإعلام، ملمح الموضوعية والرصانة في البحث النقدي العراقي، ناهيك عن كونه ممن يهدى إليهم لقب "الشاعر الكبير" حتى وإن كان الرجل خص مادحيه الحاليين بسيل أوصاف من البذاءة ليست غريبة على خريجي المؤسسة السرية للبعث، ومهدي من نتاجها الشرير والمعادي لكل كرامة انسانية وقيمة جميلة وشريفة.





 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM